إهانة الذاكرة

الاربعاء 08 ابريل 2020 - الساعة 12:20 صباحاً

 

في يوليو 1995، زرت عدن، لإجراء استطلاع أرصد فيه التغييرات التي حدثت في المدينة بعد سنة من الحرب. زرت زنجبار ولودر أيضاً.

من عدن خرجت بمشاهدات مدهشة، بل مزعجة في الحقيقة. كانت المدينة تتغير بسرعة فائقة، الأحياء تتوسع، الحجارة والإسمنت يطوقان البحر، المسلحون في الشوارع، والزحام عند مكتب الإسكان كما في أسواق القات، فوضى المرور والأمن، حتى الجنابي (خنجر يمني) دخلت المدينة.

ولم يكن هذا وغيره من مظاهر الحياة الطارئة، مثار استغراب وتعجب، فقد بدأ على استحياء عقب الوحدة مباشرةً، ولم يؤثر على مظهر المدينة، بل على روحها.

واستلفت انتباهي أن العدوان على روح المدينة، وعلى وجهها، لم يوفر أسماء الشوارع والمدارس، والكثير من المعالم، ولقد امتد ليشمل الجنوب بأكمله، كما أخبرني من تحدثت إليهم. وكانت الجبهة القومية استولت على تاريخ الكفاح الوطني، وصادرته لنفسها، فأعطت الشوارع والساحات والمدارس أسماء المنتسبين إليها ممن قضوا بالشهادة أو بالوفاة الطبيعية، وأغفلت رجالاً ونساءً غيرهم حفروا أسماءهم في تاريخ ذلك الكفاح المجيد.

أياً ما كان، فإن من أطلقت أسماؤهم يستحقون التخليد بجدارة، لكن ما حدث في تلك السنة اللاحقة للحرب، أن أسماءهم طُمست، وحلت مكانها أسماء بعيدة عن التاريخ وعن الجغرافيا اليمنية.

بدا واضحاً لي أن جماعة الحرب التي تتلفع الدين، استحوذت على النصيب الأكبر من السطو على ذاكرة الشعب، من خلال الأسماء التي خلعت على المدارس.

ولم يزعجني أبداً أن الذين أردوا أن يبدلوا، اغترفوا من البئر، وليس من النبع، وأنهم لم يضعوا على اللوحات أسماء فلاسفة ومفكرين وقادة إسلاميين أفذاذ، وإنما اختاروا رجالاً ونساءً لا وزن لهم في التاريخ.

ولقد يكون مقبولاً إلى أقصى درجة، أن تفرض بعض القوى ما تراه حسناً، ولكن دون أن تعتدي على ذاكرات الشعوب، فالقوى التي هيمنت على القرار السياسي بعد 94، كان في متناولها إطلاق ما ترغب من التسميات على منشآت جديدة، ذلك إن لم يكن الغرض طمس معنىً عبرت عنه الأسماء التي أزيلت، وهو مقارعة الاستعمار وانتزاع الحرية.

أسترجع تلك الرحلة، وما لاحظته من العدوان على التاريخ وعلى الذاكرة، حين رأيت بالأمس صورة قرار لمدير التربية والتعليم في محافظة صنعاء، بتغيير أسماء بعض المدارس، فتحولت مدارس خالد بن الوليد والفاروق وبابل وعثمان بن عفان وعمر المختار، إلى الإمام الهادي وزيد بن علي و21 سبتمبر ومالك الأشتر وعلي بن الحسن. ومعروفة الخصومة مع عثمان بن عفان والفاروق عمر بن الخطاب، لكن خالد بن الوليد كان خصماً لعمر، وإن لم يكن مظاهراً لعلي، لم يحشر أنفه في سباقات التنافس على السلطة، وظل جندياً للعروبة والدين، قائداً عسكرياً محنكاً، عبقرياً وأسطورياً.

وقد يُفهم الموقف من بابل من زاوية أنها حضارة وثنية، أو أنها لا تروق لجيراننا في إيران، وإنما تبدو الحيرة من الاعتراض على عمر المختار.

هل يرجع السبب إلى جهاده ضد الطليان الذين كانوا على علاقة بالإمام؟

إذا لم يكن السؤال ساذجاً، فإن الإجابة ساذجة بالطبع.

وهم في صنعاء فعلوا أكثر من هذا حيال مسميات عديدة في البلاد، بينها ميدان السبعين وجامع الصالح. والمعلمان من الشواهد التي يصعب محو معناها، فلقد كان المطار الجنوبي في صنعاء، مكان إقلاع الطائرات الحربية التي قادها ضباط سوريون، قصفوا منها تجمعات الملكيين، أثناء حصار صنعاء الشهير خلال 70 يوماً، ومنه استمد المكان قيمته، وأخذ اسمه. وأما الجامع فقد بناه الرئيس السابق علي عبدالله صالح، وأعطاه اسمه، وذلك حقه.

وفي الحديدة، مسحوا من المستشفى اسم العلفي؛ الضابط الشاب الذي حاول اغتيال الإمام فيها، ولست أدري متى يغيرون أسماء شوارع جمال والزبيري وعلي عبدالمغني و26 سبتمبر. وكان حكام ما بعد انقلاب نوفمبر 67، أطلقوا على شارع علي عبدالمغني، 5 نوفمبر، وغيروا اسم شارع جمال إلى عبدالعزيز الحروي، كما حاول آخرون في 2015، أن يجعلوه شارع الملك سلمان.

من أسف أن هذا داء مستفحل، وسيرة دائبة في اليمن. ففي عهد الرئيس صالح، جرى هدم كل ما يذكر بالرئيس إبراهيم الحمدي، رغم أن هذا مهد له الطريق إلى القصر الرئاسي، فمن قبله كانت دون القصر طباق من الرجال خلعها الحمدي، ولو أنها بقيت لتواضع طموحه عند الأمل في تولي قيادة لواء في الجيش.

وفي عهده، بدلت أسماء الحدائق والمدارس التي تحمل اسم 13 يونيو، ومسح اسم الحمدي من صروح المنشآت التي شيدها. لكن، ويا للوفاء العظيم، فقد بقي الاسم محفوراً في وجدان الشعب.

والجذور ممتدة، ففي التاريخ القريب، استبدل ثوار سبتمبر اسم قاع اليهود بقاع العلفي، كما هدموا أبواباً للمدينة، ودمروا معالم لها.

وفي التاريخ البعيد، عمد الأئمة، طوال عهودهم، إلى تدمير الآثار والمعالم الشاهدة على عظمة الحضارات اليمنية القديمة، لكي لا تشمخ أنوف اليمنيين، كما قال الصاحبي الذي أمر بهدم قصر غمدان.

في أحد كتبه، يقول عصمت سيف الدولة إن رمسيس الثاني أزال من جدران المعابد أسماء ملوك فراعنة سابقين عليه، وتواريخ انتصاراتهم، ودوّن مكانها اسمه بتواريخ توافق عهده. ومع أنه لم يذكر المراجع، فإن مفكراً باستقامة عصمت سيف الدولة، يستحيل أن يزل في الكذب.

الغريب أن رمسيس ما كان بحاجة إلى تلك الفرية، إذ يكفيه انتصاره المجيد في معركة قادش، التي أثمرت أول معاهدة دولية في التاريخ، بينه وبين ملك الحيثيين.

وإنما ثمة فارق هائل بين السطو على الملوك، والسطو على الشعوب. هناك تبقى الذاكرة، ويبقى التاريخ واضحاً وصافياً، بصرف النظر عن الأسماء، وهنا تدمر الذاكرة، ويضيع التاريخ في المجاهل والدهاليز، بل في القبور.

*نقلا عن المشاهد نت

111111111111111111111


جميع الحقوق محفوظة لدى موقع الرصيف برس