وما هي الأجندات السياسيّة الخفيّة التي تحملها لتغيير المنطقة؟ وكيف نُقيّم احتِمالات النّجاح والفشل؟
هل تُنقذ زيارة الشيخ بن زايد لأنقرة أردوغان من الغرق؟
الاربعاء 24 نوفمبر 2021 - الساعة 10:48 مساءً
المصدر : الرصيف برس - “رأي اليوم”
الاستِقبال الحافِل الذي حظي به الشيخ محمد بن زايد وليّ عهد أبو ظبي واستِقباله في القصر الجمهوري من قبل مُضيفه الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان لا يُمكن أن يجعل المرء يُصَدَّق أنّ هذين الرّجلين كانا يكنّان لبعضهما البعض الكثير من البغضاء والعداء القاتل ويقفان في خندقين مُتواجهين في أكثر من مكانٍ حتى قبل خمسة أشهر فقط، ولكنّها منطقة الشرق الأوسط الأكثر تَقَلُّبًا في العالم، والأصعب على المُراقب التنبّؤ بتطوّراتها.
الإماراتيّون يعرفون كيف يلعبون بأوراقهم الرّابحة ويختارون التّوقيت المُناسب، للانقِضاض على خُصومهم، وقلب كُلّ المُعادلات القائمة رأسًا على عقب، وبما يخدم مصالحهم الماديّة والسياسيّة اتّفق البعض معهم أو اختلف.
الشيخ بن زايد يزور أنقرة اليوم الأربعاء في وقتٍ يعيش فيه الرئيس أردوغان أضعف أوقاته، مُنذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السّلطة قبل ما يَقرُب من 20 عامًا على الصّعيدين السّياسي والاقتِصادي، مُلَوِّحًا، أيّ الشيخ بن زايد له، بسِلاحه الأقوى، أيّ الاستِثمارات التي يسيل لها لُعاب عدوّه التركي السّابق الذي اتّهمه بالوقوف حول مُحاولة الانقِلاب الأخيرة للإطاحة بحُكمه.
الاصطِفاف الإقليمي ضدّ تركيا في شرق البحر المتوسط، ودُخول الإمارات في تحالفٍ قويّ مع خُصوم أردوغان في اليونان وفرنسا وقبرص ومِصر، والصّعوبات الماليّة التي يُعاني منها الاقتِصاد التركي هذه الأيّام، وتراجع شعبيّة الرئيس التركي (باتت أقل من 38 بالمئة حسب آخِر استِطلاع للرأي أُجرِيَ في شهر تشرين أوّل أكتوبر الماضي)، وتدهور سعر الليرة وارتفاع مُعدّلات التضخّم، كُلّها عوامل مُجتمعة أدّت إلى رفع الرئيس التركي الرّاية البيضاء دُون مُقاومة تُذكر ووقوفه في المِصيَدة الإماراتيّة التي نُصِبَت بإحكامٍ شديد بسُهولةٍ مُفاجئة وغير مُتوقّعة.
وليّ عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد الذي فاجأ العالم بزيارته لدِمشق ولقائه الرئيس بشار الأسد، يعمل كرأس حربة في إطار منظومة إقليميّة جديدة تتبلور ملامحها برعايةٍ أمريكيّة، وترتكز على إقامة جُسور التّعاون مع دولة الاحتِلال الإسرائيلي، والانفِتاح على جميع الأطراف المُنهَكة بفِعل الحِصار والعُقوبات الأمريكيّة، بإلقاء جزرة الاستِثمارات الماليّة الضّخمة، وكسْر الحِصارات الأمريكيّة.
مُكالمة الرئيس رجب طيّب أردوغان للرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ قبل أسبوع من استِقباله وليّ عهد أبو ظبي وإعرابه عن حِرصه فيها على تعزيز العُلاقات التركيّة الإسرائيليّة، باعتِبارها أرضيّة قويّة من أجل الأمن والاستِقرار في منطقة الشّرق الأوسط أحد العناوين الرئيسيّة لهذه المنظومة الجديدة التي تضم مِصر والأردن والإمارات ودول خليجيّة أُخرى في مُواجهة المحور الإيراني القويّ.
الهدف الأبرز لهذه المنظومة هو الدّفع بتركيا أردوغان للتخلّي عن طُموحاته بإحياء العثمانيّة السياسيّة، وفكّ الارتِباط مع الإسلام السّياسي كُلِّيًّا، وحركة الإخوان المُسلمين على وجه التّحديد، وإعادة تركيا من خِلال خطّة مدروسة إلى مرحلة ما قبل عام 2002 التي تكلّلت بوصول حزب العدالة والتنمية إلى السّلطة، أيّ العلمانيّة المُطلقة، ويبدو أنّ هذا المشروع بات يُحَقِّق الكثير من أهدافه، والنّجاح الأبرز في هذا الصّدد، “تجميد” تركيا كُلِّيًّا لأنشطة حركة الإخوان المسلمين على أراضيها، ومنع رُموزها من مُمارسة أيّ نشاط سياسي أو إعلامي، ولجْمْ قنواتهم التلفزيونيّة، تمهيدًا للخطوة الأهم وهي إبعادهم.
الأنباء مُتضاربة حول المبلغ الذي ستستثمره دولة الإمارات في الاقتِصاد التركي، فهُناك من يتحدّث عن مئة مِليار دولار، وهُناك من يقول إنّ هذا الرقم مُبالغٌ فيه، والمبلع الحقيقي في حُدود عشرة مِليارات دولار، ستُستَثمر في قِطاعات الطّاقة والتّجارة الإلكترونيّة، وشِراء شركات تركيّة، وبِما يُؤدِّي إلى كبْح انهِيار العُملة التركيّة، وفتح أسواق جديدة لخلق وظائف للعاطلين الأتراك، والرّقم الأخير و”الصّغير” هو المُرَجَّح فماذا تنفع عشرة مِليارات في اقتِصاد يقترب حجمه من التّرليون دولار سنويًّا؟
بعض الخُبراء الاقتصاديين المُتخصّصين في الشّأن التركي الذين تواصلت معهم “رأي اليوم” لم يكونوا مُتفائلين كثيرًا بنجاح هذه الزّيارة الإماراتيّة في إنقاذ الاقتصاد التركي، ويتوقّعون أن يستمرّ تراجع قيمة الليرة، لسُوء إدارة هذا الاقتِصاد من قِبَل الحُكومة، وتدخّلات الرئيس أردوغان بالسّياسات الماليّة، وقرارات المصرف المركزي، وعزله لثلاثةٍ من مُدرائه في أقل من عامين..
مُضافًا إلى ذلك، أن هذه الاستِثمارات الإماراتيّة في حالة انتِقالها من الوعود إلى التّطبيق العملي، ستحتاج إلى أكثر من عامين إلى ثلاثة أعوام حتّى تبدأ ثمارها في الظّهور، وربّما يتأتّى ذلك بعد عام 2023 موعد الانتخابات الرئاسيّة البرلمانيّة القادمة التي يُشَكِّك كثيرون باحتِمالات فوز الرئيس أردوغان وحزبه فيها، مُضافًا إلى ذلك أن اللّيرة التركيّة التي خسرت 80 بالمئة من قيمتها في السّنوات العشر الماضية، وأكثر من 40 بالمئة من قيمتها مُنذ بداية العام الحالي، يُعطِي تراجعها المُتسارع شُعورًا غير مُطمئِن للمُستثمرين وعلى رأسهم المُستثمر الإماراتي.
وما يُثير استِغرابنا أنّ البعض ومن مُنطلقات الولاء الأعمى، دافع عن تدخّلات الرئيس التركي في الميدانين الاقتِصادي والمالي، واعتبروه سياسة حكيمة لمُحاربة “الرّبا”، والفوائد الربويّة جُزءٌ أساسيّ من الاقتصاد الرأسمالي التركي على مدى مِئة عام ومُنذ تولّي أتاتورك أبو العلمانيّة السّلطة.
الجانب السّياسي لزيارة الشيخ بن زايد لأنقرة لا يُمكن إغفاله أيضًا، رغم ترويج القِيادة الإماراتيّة لمقولة جديدة أخيرًا تؤكّد أنّ تركيزها الحالي هو على الاقتصاد والاستثمار وليس الجوانب السياسيّة مثلما كان عليه الحال في السّنوات العشر الماضية، فمِن غير المُستَبعد أن يقوم الشيخ محمد بن زايد بجُهودِ مُصالحة بين تركيا وسورية، وبين تركيا والمملكة العربيّة السعوديّة ودول خليجيّة أُخرى ترفع المُقاطعة عن البضائع التركيّة، ولتعزيز المحور السنّي “المُعتدل” المُرتبط أمريكيًّا في مُواجهة المحور الإيراني الصّاعد، والمدعوم صينيًّا وروسيًّا أيضًا.
خِتامًا نقول إنّ هذه التحرّكات المُتسارعة، والمدروسة، للقِيادة الإماراتيّة تأتي في إطار استراتيجيّة أمريكيّة جديدة لشرق أوسط جديد عُنوانها الأوّل، تكريس وجود إسرائيل كدولة طبيعيّة في المِنطقة عبر اتّفاقات “سلام إبراهام”، والثّاني تغيير سُلوك الأنظمة المحوريّة مِثل تركيا (إبعادها عن الإسلام السّياسي)، ودول محور المُقاومة، وخاصَّةً سورية (إبعادها عن إيران)، بعد أن فشلت عشر سنوات من الحُروب والعُقوبات، وتجنيد الجماعات المُسلّحة، وضخّ مِئات المِليارات لإسقاط أنظمتها وحُكوماتهَا.. واللُه أعلم.