ما بين جنوب " فتاح " وجنوب " البيض " !
الاربعاء 15 يوليو 2020 - الساعة 12:33 صباحاً
علي عبدالملك الشيباني
مقالات للكاتب
كأي طفل في الحجرية آنذاك ، ظلت عدن حلما يراود مخيلتي وزائرا شبه يومي يطرق ابواب امنية لم تتحقق سوى في عمر بدا لي متقدما, لا يتناسب وتلك الاحلام الموصولة بحرية العيش والعلاقات المنفتحة , وقصاء اوقات من تلك التي يحلم بها كل شباب الدنيا.
شغلت عدن جزءا كبيرا من اهتمامي واحتلت مساحة شاسعة من احلام ارتبطت بحارات وشوارع واحياء كانت تتردد كثيرا افواه القادمين الى قريتي في العطل والاجازات الرسمية.
ظللت اتخيلها شيئا مختلفا ومدينة لا علاقة لها بمسمى اليمن ، ولا تنتمي لهذه الجغرافيا التي ترزح تحت وطاءة تخلفها وتقليدية علاقاتها ومظاهر حياتها المنتمية لما قبل الدولة.
بقيت اسماء مثل المعلاء والتواهي والشيخ والمنصورة بالنسبة لي اشبه بكاليفورنيا وميامي ومدن اوروبية صاخبة ، كما كان القادمين منها من الشباب محل حسد , لا تفارق نظرات الغيرة كل ما يصدر عنهم او نوع ملابسهم التي لا علاقة لها ببيئة قميصي " المريكني " ولهجتهم المحببة لطبلات اذني.
ارتسم الانسان الجنوبي ايضا - والعدني خصوصا - في مخيلتي باعتباره شخصية مختلفة في شكله وخطوته وملبسه وحديثه وطريقة عيشه وتفكيره , وفي المقدمة مظاهر حياته المدنية والحداثية , وكنت انظر الى من اصادفه في صنعاء وقد انتقل للعيش فيها باعتباره انسان غير سوي.
اثناء دراستي في الخارج تعرفت اكثر على الجنوبيين , لم يرتقي بعضهم لمكانة والوان تلك الصورة المرسومة عنهم في مخيلتي , وان كان هناك فرقا ملموسا بينهم وبين الكثير منا نحن القادمين من الشمال , على الاقل من حيث سرعة نسج علاقاتهم العاطفية مع الفتيات الروسيات واجادة " الديسكو " والتعاطي مع مظاهر وعلاقات البيئة الروسية .كما كان صادما لي وجود من منهم على شاكلة بعضنا وخاصة اولئك المنحدرون من خارج عدن , مع ذلك ظل هنالك مايجعل الجنوب بيئة مختلفة لايمكن مقارنتها بالشمال.
الحرب الاهلية في يناير 86 كان لها وقع سيء على نفسي خاصة وانها اندلعت بدوافع مناطقية في مجتمع يعيش تجربة اشتراكية بأفقها الاممي المفترض انه متجاوز لأشكال ما قبل الدولة , مع ذلك قراءته ضمن نتاج الواقع الشرقي عموما.
العام 89 عقب تخرجي وتوقيع اتفاقية الوحدة سافرت اول مرة برفقة عدد من الزملاء الى عدن للمشاركة في عرس ابن قريتي المهندس " عبد سعيد التلاحه" .
هاأنا اخيرا في عدن , وقبلها مررت على لحج وقضيت وقتا ممتعا في بستان الحسيني مع منتج " صيره " التي سمعت عنها كثيرا , ولفت نظري تلك الحرية في تناولها على طاولات الاستراحة من قبل بسطاء الناس.
لاشيء في عدن يلفت الانظار على المستوى العمراني , فالشوارع والاحياء السكنية متواضعة مرجعا ذلك لطبيعة النظام الاشتراكي بلونه السوفييتي الذي لايسمح بأي نشاط لرأس المال الذي غادر للدول المجاورة , لكن التزام الناس بنظام السير ونظافة الشوارع ومدنية المجتمع كانت لافتة للانظار.
قضاء الكثيرين لياليهم في بارات مفتوحة وعلى السواحل بحرية متناهية كان في مقدمة مالفت نظري.
حركات وتصرفات ذلك " العمراني " الجالس بالقرب مني , بلباسه الشعبي وتصرفاته الطفولية وهيئته الغريبة على المكان واجواءه , قهقهاته وطريقة تعاطيه لأكواب " الفودكا" القريبة من تناول الشاهي في واحدة من بوفيات صنعاء , اشعرني بشيء من الاسف على شمالنا المصدر للنخيط والمنتج لماركات ماقبل الدولة.
تحققت الوحدة , وذهب الجنوب لقمة سائغة الى فم علي عفاش ورقم اضافي الى رصيده المالي , وشعبه الى رعية جدد في ميزان الغلبة التاريخية .
في الوقت الذي غادر فيه العام 79 الى الكويت , متوسلا قيادتها بالضغط على القيادة الجنوبية بزعامة "فتاح" لايقاف الحرب , بعد ان كانت القوات الجنوبية قد وصلت الى عمق المحافظات الشمالية , بما في ذلك تهديد محافظة ذمار والتي لاتبعد عن العاصمة سوى 100 كم .
اقترح فتاح اعلان الوحدة من الكويت برئاسة عفاش , الا انه رفض , والسبب كما اورده لاحقا في احدى مقابلاته في قناة الجزيرة , وارجعه الى قوة الجنوب حينها وضعف الدولة الشمالية .. هكذا كان ينظر للوحدة بعيدا عن المنطلق الوطني , الامر الذي عكس بوضوح طبيعة تعاطيه معها وايصالنا الى مانحن عليه من الضياع والحروب والتقسيم وتسيد مشاريع ماقبل الدولة .