إطلالة مصرية جديدة على اليمن
الثلاثاء 21 يوليو 2020 - الساعة 09:01 مساءً
حسن العديني
مقالات للكاتب
ما زال الدور المصري في اليمن، خلال حقبة الستينيات، يشغل بعض الكتاب في مصر، خصوصاً أولئك الذين يحملون ثأراً مع ثورة 23 يوليو، ففي أحد رفوف مكتبة الشروق لفت نظري عنوان “توفيق الحكيم وعودة الوعي”، بتوقيع “رجائي عطية”.
ظننت أنه كتاب قديم رد فيه صاحبه على الحكيم عندما أصدر كتابه في ذلك الزمان، فأخذته لأتصفح. وكالعادة يبدأ المرء من عتبة الكتاب، فإذا بعيني تقع على الجملة “الطبعة الأولى 2020”. وإذن، فإن الكتاب جديد، ولا بد أن صاحبه أعاد قراءة “عودة الوعي”، فلمعت في ذهنه أفكار سجلها وأخرجها في الكتاب الصغير.
لا بأس. لعل فيه ما يستحق أن يُقرأ. اشتريته واستعجلت قراءته، ثم لم أجد ما يغري. كل ما فيه أنه نقل فقرات من “عودة الوعي”، هاجم فيها الحكيم جمال عبدالناصر، واعتبرها شهادةً لا تقبل النقض، ثم زاد عليها بالهجوم في مواضيع قال إن الحكيم لم يفطن إليها.
لا يهمني من محتوى الكتاب غير تناوله على نحو أراده أن يكون لافتاً لتدخل مصر العسكري في اليمن عند ستينيات القرن الماضي. واللافت أنه اختار من كتاب الحكيم فقرة تتحدث عن ذهب كان يرميه المصريون من الطائرات إلى التلال لشراء ولاء القبائل اليمنية، وعن أجبان ترمى كذلك لتأكلها الديدان في وديان اليمن، غير تخاريف أخرى رأيت أن أعلق عليها، وإن كانت بعض الملاحظات عن اليمن ستسوقني إلى خارجها، خصوصاً في ما يتعلق بدعم مصر لحركات التحرر الوطني:
أولاً: إن مصر لم تحاول أن تشتري أو تبيع، وإن الذي استخدم الذهب هو الطرف الآخر الذي كان يدعم القوى الملكية، وقد كان يسلمه يداً بيد، ولا يرميه من الطائرات. ذلك لا ينفي أن مصر أنفقت كثيراً في اليمن الشمالي وفي اليمن الجنوبي، حتى لا ينسى الكاتب أن مصر أعدت وخططت ودعمت وسلحت الثورة في جنوب اليمن، التي أجبرت بريطانيا على أن تحمل عصاها وترحل، كما صمم جمال عبدالناصر، وأعلن في ميدان الشهداء بتعز، في أبريل 1964.
ولقد أنفقت مصر في الحرب، وفي تأسيس دولة الرعاية، خصوصاً في دعم قطاعات التعليم والصحة والإدارة، دون أن يستنزف الذهب. والموثق في السجلات المصرية أن مصر باعت 10% من رصيدها من الذهب، مرة واحدة، في الستينيات، لتمويل مشترياتها من القمح، عندما أوقفت الولايات المتحدة توريد احتياجاتها من القمح كمساعدة سنوية. وما أنفقته مصر على الثورة اليمنية وعلى غيرها، كان يتم بحساب ورشادة، حتى إنه لم يترك تأثيراً على حركة التنمية، فقد كانت مصر تبني السد العالي، وتشيد المصانع (1200 مصنع)، وتقيم شبكات الطرق والكهرباء، وتنشر التعليم والثقافة إلى درجة أن معدل النمو بلغ أعلى المستويات في العالم (6.5% سنوياً) خلال الخطة الخمسية الأولى (60/61-64/65).
ولا تتوفر أرقام معلنة على ما أنفقته مصر على حركة التحرير الوطني، وهي موجودة بالتأكيد في أرشيف رئاسة الجمهورية والمخابرات العامة. وفي كل الأحوال، فإن تلك النفقات لا تداني ما هربه البعض القليل في عهد تخلت مصر عن دورها وعن واجبها القومي.
ثانياً: إن مصر بذلك الدور كانت تدافع عن أمنها، فإن الأمن القومي المصري، كما يقرر الاستراتيجيون، يبدأ من جبال طوروس شمالاً إلى باب المندب ومنابع النيل جنوباً. ولقد ذهب عبدالناصر إلى اليمن والخليج وأفريقيا لمواجهة الاستعمار وأعوانه، دفاعاً عن بلده. وفي تلك الفترة استطاعت مصر أن تخنق إسرائيل في أفريقيا تماماً. ولعلنا نتذكر أن جمال عبدالناصر حين قاد مهمة إنشاء منظمة الوحدة الإفريقية، اختار أن تكون العاصمة الإثيوبية أديس أبابا مقراً لها، في سياق حرصه على علاقة خاصة مع الامبراطور “هيلا سلاسي”، من أجل الأمن المائي لبلاده.
ثالثاً: إن مصر كانت تستثمر المستقبل من جميع النواحي. وإذا سايرنا الحكيم وعطية بالحساب الاقتصادي البحت، فإن الدعم المعنوي والسياسي والإعلامي والقليل من السلاح الذي قدمته مصر للثورة الجزائرية، لم يذهب قبض الريح، ومعروف صفقات السلاح التي سددتها الجزائر للاتحاد السوفيتي بعد 1967، كذلك شراء ليبيا 100 طائرة ميراج لمصر عندما كانت فرنسا ملتزمة بقرار اتخذه ديجول بحظر بيع الأسلحة للدول المتحاربة في الشرق الأوسط.
ويوم انسحبت مصر من أفريقيا، توغلت إسرائيل، وحصل ما حصل، آخرها حكاية سد النهضة، حيث إسرائيل أحد رواة تلك الحكاية المحزنة.
ذلك خارج موضوع اليمن، ولكنه متصل به في السياق.
رابعاً: إن الوجود العسكري المصري في اليمن، لم يكن سبباً بأية حال لما حصل في يونيو 1967. فقد بقي في مصر ما يكفي من القوات والسلاح لتحقيق النصر أو تفادي الهزيمة إذا ما أديرت الحرب بكفاءة. وأما بالطريقة التي جرت، فإن النتيجة لن تتغير حتى لو لم يكن هناك جندي واحد باليمن. ذلك أن الجيش المصري لم يقاتل لسبب استهتار القيادة العسكرية. مع ذلك، فقد تحمل جمال عبدالناصر المسؤولية كلها، ومسؤوليته الحقيقية أنه تساهل مع المشير عامر، وأبقاه على رأس القوات المسلحة. غير أنه في حساب التاريخ، فإن الهزيمة واردة مثلما هو النصر، والمعيار هو في الانهيار والاستسلام أو التحدي واستمرار إرادة القتال.
خامساً: إن عدد قتلى الجيش المصري في اليمن لم يكن بعشرات الآلاف، ولا بآلاف كثيرة، كما ادعى الحكيم وروج عطية. والإحصائيات تقترب من 5 آلاف، تأكل مثلهم حوادث السير في أقل من السنوات الـ5 التي أدى فيها المصريون مهمتهم في اليمن.
ولم يكن الوجود المصري في اليمن سبباً في تأزيم علاقة مصر بالسعودية، كما نفخ رجائي، إذ كانت العلاقة عند أدنى مستوياتها بقرار من حكام السعودية، وليس من جمال عبدالناصر.
وبعد ذلك، فإن الوعي بحدود أمن مصر القومي لا يدركه محامٍ شاطر أو فنان موهوب، وإنما يعيه دائماً المفكرون الاستراتيجيون والقادة العظام الذين يتمثلون دور جمال عبدالناصر وعبقرية عبدالمنعم رياض.
ولعطية أن يحسب أتعابه في القضايا التي يتولاها دون أن يذهب بعيداً إلى حساب الأرباح والخسائر في المعارك الكبيرة التي خاضتها مصر من أجل شرفها وكبريائها.
*نقلا عن المشاهد نت