اليمن ومصر.. إحياء الأمل
السبت 15 أغسطس 2020 - الساعة 12:20 صباحاً
حسن العديني
مقالات للكاتب
لا أدعي أن شواغل منعتني من الكتابة عن الحدث في وقته، لكن هكذا جرى الحال. ربما أن موعدي مع المشاهد لم يكن حالاً، غير أني وقد مضى الوقت، رأيت أنه لا يجوز إلا أن أقول ما رأيت وما قدرت.
الحدث في مظهره عادي ومتكرر. رئيس وزراء دولة يزور دولة أخرى، وبالتحديد رئيس وزراء اليمن يزور القاهرة، فيحتفون ويحفلون به بأكثر من المتوقع، ومما يجري في العادة.
هنا الدلالة البليغة والعميقة لمعنى الاستقبال، ليس بسبب قوة الوشائج والروابط، وإنما بالنظر إلى ظروف البلدين في هذه اللحظة التاريخية على وجه التحديد.
بدا لي من الدعوة إلى المبالغة في الحفاوة، أن البلدين يعرفان تماماً حجم المخاطر التي تحيط بهما، ويقدران أهمية تضافر القوة مهما كان من ضعفها لدى أحد الأطراف، وذلك من أجل التحدي والتصدي والانتصار.
ولست في وارد الحديث عن علاقة تاريخية أسبق مما قدمته مصر الناصرية لليمن، وأبعد مما فعل المماليك في هزيمة الحملة التي جردها البرتغاليون في عهد قديم. لست أمام شواهد التاريخ بقدر ما تنتصب أمامي وأمام الناس أجمعين حقائق الجغرافيا الحاضرة والماثلة الآن، وفي كل زمان.
الحقيقة الجلية أن اليمن تمسك بمضيق باب المندب؛ مفتاح البحار الواصلة بين الشرق والغرب، من حافة الباسيفيك عند اليابان، إلى الأطلنطي على الطرف الآخر من العالم الجديد. وقد أضافت قناة السويس حيوية فائقة إلى الممر المهم، عندما اختصرت الدوران الطويل حول أفريقيا عبر رأس الرجاء الصالح، ذلك الذي مثل اكتشافاً حمى به “فاسكو داجاما” التجارة من أن تمضي في الصحارى بمخاطرها وأهوال السير فيها.
حتى قبل قناة السويس، كان باب المندب مدخلاً يوصل إلى البر المصري، وكان الأمن القومي المصري يبدأ من هناك، ثم لا ينتهي في الشمال قبل جبال طوروس.
كان هذا الأمن يسري غرب باب المندب إلى منابع النيل في أوغندا وإثيوبيا. وفي الماضي البعيد خرج كبار عظماء الفراعنة إلى الشام لصد الغزوات الآتية من آسيا الصغرى، رمسيس الثاني في مواجهة جيش الحيثيين، وقلنصوه الغوري أمام السلطان العثماني سليم الأول. كذلك ذهب إبراهيم باشا إلى هناك، وكاد يقضي على السلطنة العثمانية لولا تردد والده واتفاق البريطانيين والفرنسيين على كبح جموح وطموح باشا مصر. ثم إن الخديوي إسماعيل أدرك أهمية أمن مصر من الجنوب، وذهب عبر السودان، فأرسى سلطانه حتى بربرة في الصومال قريباً من اليمن. وأما جمال عبدالناصر فقد جاء إلى قمة الدولة المصرية، بعد أن تم شق العالم العربي بالكيان الدخيل في فلسطين، وكانت الشام حاضرة في ذهنه، كما كانت أفريقيا مرئية أمام عينيه، ثم إنه كان واعياً بخطورة وجود الاستعمار في السويس وشرقها، كما في جنوب مصر على امتداد القارة السوداء، فكرس كفاح بلاده لتأمين بلاده من هذه الجهات الثلاث، مثلما اتجه غرباً لطرد الاستعمار الفرنسي من الجزائر والمغرب العربي.
كانت مصر دائماً عرضة للغزوات من الشمال والشرق، الإغريق والرومان والفرس، وحتى من ليبيا في الغرب. واليوم يتكرر الحصار من الجهات نفسها، حصار محكم خطير من إسرائيل، ومن ورائها الامبريالية العالمية بزعامة الولايات المتحدة، ومن بعدها تجثم تركيا رابضة فوق أراضي سوريا والعراق، حيث تتقاسم المطامع هناك مع إيران ودول أخرى، لتعبر عبر المتوسط إلى ليبيا في احتلال سافر يسعى إلى خنق مصر من الضفة الأخرى.
وفي الجنوب حيث شريان حياة المصريين، يجري الضغط على مجرى النيل حتى لا يصل إلا نازفاً، ولكي يعيش المصريون رهقاً وشقاءً.
هناك في تمويل سد النهضة، اشتغلت قطر بقدراتها المالية، وتركيا بشركاتها المقاولة، وإسرائيل بالتفكير والتدبير والمقاولة أيضاً، وحتى دول عربية ظاهرة الصداقة لمصر.
وإذن، فإن مصر المحاصرة من جهاتها الأربع، غدت تنظر إلى محيطها العربي باهتمام زائد، وترى أمنها متصلاً بالأمن القومي العربي، وعلى وجه خاص بأمن ليبيا في الغرب وأمن سوريا في الشمال وأمن اليمن الجنوب. وهي ترى أن اليمن في هذه اللحظة الفاصلة، تتعرض لعملية تدمير قاسية. فهناك تجري عملية شطب لثورة 26 سبتمبر، وتصفية للجمهورية التي أسهمت مصر في إرساء قواعدها.
وهناك في اليمن تنتعش أوهام لإعادة الاعتبار للاستعمار البريطاني الذي خططت مصر وقادت ومولت عملية صلاح الدين لطرده من عدن وما حولها.
وهناك في اليمن محاولة حثيثة لضرب الوحدة اليمنية التي مثلت إنجازاً في سياق النضال من أجل الوحدة العربية، ذلك الأمل الذي كافحت من أجله مصر، وضحت وبذلت.
وهناك في اليمن تدمير مقصود ومنظم للتعليم الذي أدخلته مصر إلى البلاد في وجهه الحديث بمقاييس ذلك العصر، مطلع الستينيات.
وفي اليمن هناك مؤامرة لتمزيق النسيج الاجتماعي، تكتب سيرةً للاقتتال الأهلي إلى أجل غير مسمى.
وهناك وهناك وهناك…
وهناك معين عبدالملك شاب لامع رصين وعليم، أظهر عند لقائه بالمشتغلين في الإعلام عند زيارته القاهرة، أنه ملم بشؤون وأحوال البلاد كافة، مدرك للتعقيدات الاجتماعية والسياسية، عارف بالمشاكل والمطالب، تماماً مثلما يعرف ويقدر الحدود والإمكانيات التي يتحرك في إطارها، ويعمل على أساسها. ولهذا فهو لا يتخلى عن الأمل، ولا يتواضع في الأهداف، كما أنه لا يشطح أو يسرف في الأماني.
ولقد تراءى لي أن شكل الزيارة وما فيه من حفاوة، وأن مضمونها وما احتواه من وعود، شكل تأكيداً والتزاماً من الدولة العربية الأكبر، بدعم السلطة الشرعية في اليمن، التي يمثلها الرئيس عبد ربه منصور هادي، عنوانها إلى المستقبل.
لقد أدركت الدولة في مصر أن سياسة الانسحاب خلال نصف القرن الماضي، من محيطها العربي والإفريقي، خصمت من رصيدها وقيدت دورها. وهي الآن تحاول أن تستثمر الرصيد الباقي، وأن تضيف إليه حتى تكسر الأطواق، وتتحرر من الحبال التي يراد أن تخنق بها.
وليس من شك أن في اليمن من يدرك بالدرجة نفسها أهمية استئناف الحياة واستنشاق نسيم الأمل لكي تتحرر البلاد من كوابيس الدم والنار والدمار والمجاعة.
ذلك يجعل التعاون مع مصر وباقي البلدان العربية الواعية بضرورات الأمن القومي العربي، واجباً ولازماً وسابقاً على أية شراكة مع قوى أجنبية تبين أنها كانت تصنع الخراب في البلدان العربية تحت شعار الشراكة المخادع.
هو الأمل والعزيمة إذن، وليس اليأس والاستسلام.
*نقلاً عن: "المشاهد نت"
Yaseen Alhammadi
2018-December-21الرصيف برس من المواقع المتميزه والمقرؤه