من يرقص مع الشيخ.
الاحد 09 يوليو 2017 - الساعة 05:21 صباحاً
مروان الغفوري
مقالات للكاتب
استندت سياسة الملك السعودي الراحل "عبدالله" إلى الاعتقاد بأن زعزعة كل الدول المحيطة بالسعودية سيخدم في نهاية المطاف معركة السعودية ضد إيران.
لا توجد دولة في العالم تفكر بهذه الطريقة، سوى واحدة: الإمارات.
في يناير ٢٠١٥، الشهر الذي سيُتوفى فيه الملك عبد الله، كانت علاقة السعودية قد انهارت مع: لبنان، قطر،العراق، سوريا، اليمن، فلسطين، السودان، تركيا، تونس، الجزائر، ليبيا، إيران.. ومع شعوب الدول أيضاً.
وكانت الصحف الأوروبية، على اتساع القارة، لا تجد من تفسيرٍ يومي لحالة الإرهاب في العالم سوى كلمة واحدة "الوهابية" وأحياناً: السعودية. صحيفة مثل الإندبندنت وضعت السعودية هدفاً يومياً، الأمر الذي دفع السفير السعودي في لندن إلى كتابة مقال في صحيفة إنجليزية يذكر فيه بريطانيا بالمصالح المشتركة.
كانت السعودية قد صارت دولة سيئة السمعة على نحو يصعب تخيله، وتصعب أكثر معالجته.
وفي ألمانيا انتشرت كتب كثيرة عن الإرهاب السلفي القادم من السعودية، وأكثر من ذلك. فقد قفز كتاب "من يرقص مع الشيخ" إلى قائمة الأكثر مبيعاً، وهو كتاب يحكي فيه شتيفان باور، مساعد طبيب الطوارئ، على طريقة ماركو بولو تجربة عام واحد في السعودية، بلاد واق الواق التي شاهدها في الجزيرة العربية.
في واحد من مواضع الكتاب يقول إن مواطناً سعودياً منع فريق الطوارئ من الاقتراب من زوجته التي كانت تموت في المنزل في ساعة الطلق. وقف طاقم الطوارئ أمام المنزل فاقداً للحيلة، والسيدة تموت شيئاً فشيئاً في الداخل.
بعد دقائق يخرج الزوج ويطمئنهم قائلاً: سأحصل على زوجة جديدة، وستنجب لي ولداً بدلاً عنه. لا تمض سوى أسطر قليلة حتى تشهق القارئة أو القارئ مجدداً: يا إلهي، كيف يعيش هؤلاء بحق الجحيم.
جاء سلمان. سيصدر خلال عشرة أيام مائة قرار، وسيتخلص من فريق الملك الراحل، على طريقة ملوك الفراعنة: يلغي الملك الجديد آثار الملك القديم.
فتح الأبواب المغلقة، ومد الجسور مع دول مركزية كالسودان وتركيا، وتعامل على نحو أكثر تمهلاً مع حركة شعبية واسعة الانتشار "الإخوان المسلمين"، وشكل أحلافاً واسعة، كالتحالف العربي لإعادة الشرعية، والمؤتمر الإسلامي لمكافحة الإرهاب. لكنه سرعان ما سيسقط في جلباب أخيه، وسيمتصهم السروال نفسه.
تعود عقدة الإخوان المسلمين لتلتهم أصابع الملك سلمان، وسيركض خلف العقدة تلك ليجد نفسه يحارب طواحين الهواء ويصيب كل الاتجاهات بحثاً عن البوكومونات الشعبية التي يصعب تحديد ملامحها.
يعتقد "غولد"، المؤرخ المتخصص في شؤون العربية السعودية، أن الملك فيصل التزم الحياد في مسألة الصراع العربي الإسرائيلي لسببين اثنين: لأنها تقاتل عدوه عبد الناصر، ولأنها تشكل تهديداً للدولة الهاشمية في الأردن.
فقد مسكوناً بعقدة الهاشمية، مثل باقي إخوانه، منذ هرب الهاشميون من مكة في عشرينات القرن الماضي وراحوا ليحكموا الأردن والعراق. تلك العقدة جعلت من إسرائيل، بالنسبة للملك فيصل، مصلحة تاريخية.
ففي حرب الأيام الستة، ١٩٦٧، ساهم الملك فيصل بلواء وحيد يساوي ثلث كتيبة عراقية من كتائب العراق المشتركة بالحرب.
بقي اللواء السعودي في أودوية الأردن، ولم يخض المعركة. وبالرغم من أن فيصل تمنى، كما يُروى عنه، الصلاة في القدس، إلا أنه رفض زيارة القدس التي كانت تحت السيادة الأردنية حتى عام ١٩٦٧! السياسة السعودية فوضوية ولا تستند إلى خيال استراتيجي، وهي تخرج من قصيدة "ألا لا يجهلن أحدٌ علينا، فنجهل فوق جهل الجاهلينا".
ففي العام ١٩٦٢ أسس الملك فيصل، وكان لا يزال ولياً للعهد، منظمة المؤتمر الإسلامي. في العام التالي ستصدر المنظمة بياناً بليغاً يدين جمال عبد الناصر ويدافع عن الإخوان المسلمين.
ثم، نكاية بعبد الناصر، ستسقبل السعودية إخوان مصر وسوريا وستفتح لهم مؤسسات التعليم.
ستتطبع السعودية بالطابع الإخواني، وسيتطبع الإخوان بالطابع السلفي.
كانت تلك الحقبة "سعودة/وهبنة الإخوان المسلمين" هي أسوأ ما حدث للتفكير الإخواني في القرن الماضي، وستترك أثرها على التنظيم حتى الآن.
وبعد ستين عام ستعود منظمة المؤتمر الإسلامي، نفسها، إلى موضوع الإخوان وستصدر بياناً يعتبرهم جماعة إرهابية، وستقول عن القرضاوي، الذي منح جائزة الملك فيصل، بأنه "أحد رموز الجريمة الدولية، وأكبر دعاة الإرهاب".
في معركة السعودية مع إيران، وهي معركة لن تضع رحالها قريباً، تحتاج السعودية لحلفاء. لكنها، كما يبدو، غير قادرة على صناعتهم ولا اكتشافهم. في شتاء ٢٠٠٨ زار وفد من "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" الرياض والتقوا بالملك عبد الله.
كانت غزة تتعرض لحرب ضارية استخدمت فيها القنابل الفوسفورية. في الاجتماع سيردد الملك كلمات عدوانية ضد غزة وحماس، وسيقول للوفد إنه لن يقدم أي مساعدات مالية لحماس.
يحاول الوفد لفت انتباه الملك إلى أنه ليس وفداً لجمع المال، بل لتشكيل ضغط سياسي لإيقاف الحرب، لكن الملك يجعل كلماته تلك آخر الحديث.
فنجهل فوق جهل الجاهلينا! قبل أيام نشرت صحيفة نيويورك تايمز عن قاسم سليماني قوله "نحن نراقب العدو، وهو يرتكب أخطاء جسيمة تضعفه أكثر".
ستبقى السعودية في التقدير الإيراني عدواً. لن تكون إيران، بالنسبة للسعوديين، سوى عدو. فالجانبان يخضعان كلياً لرؤيتين دينيتين متصارعتين، ويتحكم الدين في صناعة الخيال السياسي لدى الطرفين. لكن إيران قادرة على بناء أحلاف، فهي دولة تستند إلى تاريخ طويل مع السياسة والحكم، مع الحروب والتوازنات.
بخلاف السعودية.
فعندما ترددت مصر عن وصف النظام السوري بالإرهابي أرسل الملك سلمان رسله إلى أثيوبياً، وجعلهم يلتقطون الصور أمام سد النهضة ويتحدثون عن نوايا سعودية للاستثمار في "السدود الأثيوبية"! فنجهل فوق جهل الجاهلينا! لم يوقف فيصل النفط عن الأسطول الأميركي في المتوسط إلا بعد مرور حوالي أسبوعين من بداية حرب أكتوبر.
يذكر هنري كيسنغر إن الملك راسله في اليوم العاشر من الحرب ولم يأت على ذكر النفط، ولم يشر إليه.
بعد تحول المعركة لصالح إسرائيل، التي راحت تعبث بالجيوش العربية من جديد وتوغل جيشها في الأراضي المصرية حتى صار على بعد ٧٠ كيلو متراً من ضواحي القاهرة، هناك قرر فيصل إيقاف النفط، تحت ضغط مشايخ الوهابية السعودية وفي مقدمتهم مستشاره وملهمه الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ، المفتي.
خضعت إرادة آل سعود لإرادة آل الشيخ، وفسر فيصل موقفه بأنه استجابه لضغط المؤسسة الدينية القوية، وخوفاً من انهيار وشيك للجبهة الداخلية التي تسيطر عليها المؤسسة الوهابية.
لاحظ فيصل شيئاً مذهلاً. فقد كان الناتج السنوي للسعودية في العام ١٩٧٢ لا يتجاوز ال ٢ مليار ونصف المليار.
مع انتهاء الحرب، وفي العام التالي بلغ الناتج السنوي السعودي ٢٢ مليار دولارا في العام. لقد حققت فكرة الوهابيين، بقطع النفط، نتائح مذهلة. راح الملك فيصل يكافئ الوهابيين على تلك الفكرة بما توفر له من المال، فانتشرت مؤسسات رابطة شباب العالم الإسلامي في كل الدنيا.
ومن أنشطتها ستخرج سلسلة جديدة من الإرهابيين بعد سنوات، وستضرب في كل مكان. حارب الملك فيصل إلى جانب الحوثيين في ستينات القرن الماضي، وكانوا على هيئة "آل حميد الدين". وسيقاتل شقيقه الحوثيين بعد عشرات السنين.
كانت عقدة الملك فيصل هي الجمهورية، كما تقدمها الناصرية.
أما عقدة الملك سلمان فهي الجمهورية كما تعرضها إيران.
لا تستطيع الأسرة السعودية الحاكمة إقامة علاقات مستقرة مع الدول الكبيرة في المنطقة، وبقيت علاقة جيدة مع مصر مرهونة بدوران السياسة الخارجية المصرية في المجال السعودي.
ذلك ما دفع الملك عبد الله إلى عداء تركيا وإيران ومصر ٢٥ يناير، في الآن نفسه.
وستتكعبل السعودية بالعقدة الإيرانية شيئاً فشيئاً، وستتخلى عن حلفائها على الصعدين الدولي والشعبي لصالح إيران، وفي نهاية المطاف قد يفر السعوديون كما فر خصومهم الهاشميون من مكة قبل مائة عام، ولكنهم لن يجدو أردناً ليحكموه.
فالتاريخ لا يجود بالشيء نفسه مرتين. فنجهل فوق جهل الجاهلينا! وقعت السعودية في الفخ اليمني، ولن تنجو منه في القريب.
فبينما يذهب حليفها الإماراتي إلى تعقيد المشهد الجنوبي انتقاماً من شقيق هادي، الذي صار يتحكم بمؤسسة الرئاسة ويتصادم مع الرغبات الإماراتية، بقيت السعودية عاجزة أمام تعقيدات أكثر ضراوة في الشمال اليمني.
بالأمس تحدث قادة الجنوب كقادة رسميين لدولة مستقلة.
لكن المشكلة السعودية بقيت قائمة: شمال اليمن. ذهاب الجنوب بعيداً عن اليمن لن يحل المشكلة السعودية بل سيعقدها.
فسيكون عليها أن تتعامل وحيدةً مع دولة كثيفة السكان تقع على خاصرتها، ولديها خاصية فريدة: فهي الدولة الوحيدة في شبه الجزيرة العربية التي توفر عمقاً دينياً لإيران.
إذا ذهب الجنوب إلى الإمارات، وجعلت منه الإمارات مشروعاً مشابهاً لمشروعها في الصومال "صومالي لاند"، فإن الشمال سيذهب إلى إيران لا إلى السعودية. لكي يتمهل الجنوب قليلاً فلا بد من أسباب لذلك.
فمشروع الدولة الاتحادية يبدو، في نظر المواطن الجنوبي، حلماً فانتازياً. فلا حرب تحرير في الشمال، ولا مشروع لتسوية سياسية قابلة للحياة يمكنها أن تقنع الجنوبي بالتمهل قليلا.
تعثرت حرب السعودية وسياستها في الشمال، وانتعشت أحلام الإمارات في الجنوب.
داخل الأحلام الكولونيالية للإمارات وجد الساسة الجنوبيون ضالتهم، والتقطوا الكرة كما هي متاحة.
قبل يومين سألت سياسياً يمنياً يقيم في الرياض فقال إن موقف السعودية، فيما يخص المسألة الجنوبية، محايد ومرتبك. فهم غير راضين عن النزوع الانفصالي المتصاعد في الجنوب، ويقلقهم على نحو عميق.
لكن مشاكل السعودية أصبحت من الكثرة بمكان حتى إنها غير قادرة على إدارة معركة بعينها حتى النهاية، وذلك ما تستغله الإمارات، التي يبدو أنها تهلك السعودية في مزيد من المعارك. كما قلت في البداية، لا توجد دولة تخوض كل المعارك، في كل الاتجاهات، في الوقت نفسه .. وتنتصر. إن دولة تفعل ذلك إنما تطلق النار على قدميها، كما قالت نيويورك تايمز قبل أيام. فلا ترقص مع الشيخ، لا ترقص مع الشيخ..