اليمن.. الكُلُّ منتصرٌ أو الكل مهزوم
الاحد 09 يوليو 2017 - الساعة 05:49 صباحاً
د.عمر عبدالعزيز
مقالات للكاتب
رغم الصعوبات والتحديات البالغة، سجل الرُّشد اليمني لحظة تاريخية فارقة، وثبت بالدليل القاطع أن الحكمة ما زالت سيدة الموقف، ورغماً عن مثيري المشاكل والفتن، فتتويج مؤتمر الحوار الوطني يقدم الخيار الأفضل والأمثل، حتى وإن لم يكتمل جرَّاء العديد من الثغرات والنواقص، ذلك أن الأصل في المعادلة اليمنية الأكثر حكمة في زمن الربيع العربي، يكمن في شجاعة التوافق والتنازلات المتبادلة، وهو أمر ما زال مفتوحا على مزيد من توافق التوافق، والتنازلات المؤلمة، المفارقة من حيث الجوهر لمنطق ومنهج تجار الحروب وخلط الأوراق.
لا طريق أمام اليمنيين سوى خيار العقل والحكمة، ولا وسيلة وفاء رفيعة لأحلام الجماهير المطحونة بالفقر والحيرة، سوى السير على درب المستقبل المغاير لسيئات الماضي القريب والبعيد، والتمسك بالشجاعة الأدبية المقرونة بمصداقية الاعتراف بأن الجميع شركاء في الحسنات والسيئات.
لقد أنقذت هذه الثقافة أُمماً عظيمة، وأوضحت معنى الانتماء للمصلحة العليا، ومناجزة ثقافة الحروب الدائمة المستطيرة. رأينا ذلك في عموم شرق أوروبا وروسيا الكبيرة، كما نراها رؤيا العيان في عديد من بلدان الحكمة والترقِّي، القابضة على تميمة التعايش والتواشج، وعلى قاعدة التنوع والاجتهادات المتباينة.
وبهذه المناسبة يمكننا استدعاء مثلين متناقضين حتى مخ العظم، لنرى معنى التعددية التوافقية المحكومة بقدر كبير من التنوع الأفقي، كما هو الحال في الهند المشمولة بعشرات الأديان، ومئات العقائد، والحجم السكاني الاستثناء.. وفي المقابل سنرى كيف أن بلداً عربياً إسلامياً كالصومال، يعاني الأمرين من ثقافة التناحر، رغم الوحدة القومية واللغوية، وحتى الدينية المذهبية.
من المَثلين السابقين نستنتج أن خيار التنوُّع في الوحدة هو خيار العقل والمنطق، بل خيار التاريخ والجغرافيا والحكمة.. وقد أحسن مؤتمر الحوار الوطني اليمني، عندما قرر تحديد شكل الدولة اليمنية الجديدة بوصفها دولة اتحادية لا مركزية.. مُتعددة الأقاليم.. يتشارك فيها جميع المواطنين.. في الحق والواجب المحمولين على جناح القانون، وتصبح المباراة الاقتصادية التنموية في هذه الدولة، مباراة حرة تفيض بتعدد المبادارت، وتنوع الأنساق التنموية، والتشارك الواسع في صنع قرارات المستقبل.
الدستور الجديد سيتضمن هذه الأبعاد، والمكونات الإقليمية القادمة ستكون دالة الطريق، بل تعبيرها الأقصى الذي لا يرقى أدنى شك في كونه الوعد الحق.
الشعب اليمني يستحق فرصة سانحة لتجربة نظام اتحادي لا مركزي، يتذوق الناس من خلاله طعم المشاركة والنمو والمحبة.. اليمنيون يستحقون نظاماً يفتح الباب للأفضليات التنموية، ويؤمن لكل فرد حق الغذاء والدواء والكساء والتعليم والسكن، ويطلق العنان لتنمية أُفقية تشمل عموم أقاليم البلاد، وليس ذلك مستبعداً ولا مستحيلاً، قياساً بالخيرات الواعدة، واستناداً إلى تجربة الأيام والأشهر الأكثر صعوبة.
من المُلفت حقاً أنه، ورغماً عن محنة السنتين الماضيتين، ظلَّت العملة الوطنية اليمنية ثابتة، ولم تشهد البلاد تضخماً كان متوقعاً بحسب خبراء الاقتصاد والمال، وفاض بعض المؤسسات المالية والاستثمارية والتجارية ذات العلاقة بالاقتصاد الجزئي، بنجاحات مرصودة، رغم تراجع الاقتصاد الكُلِّي، وخاصة في البُعدين الخدماتي والريعي.
فالمعروف أن الاعتداءات الهمجية على خطوط نقل النفط والغاز، كان لها أثر سلبي على الميزانية العامة للدولة، كما كانت للاعتداءات الخسيسة على أبراج نقل الكهرباء آثار سلبية على المواطنين والخدمات أيضاً.. وإذا أضفنا إلى كل ذلك سياق الاغتيالات التي باشرها صُنَّاع الموت، المُتخفون وراء الغرف المظلمة، سنعرف مدى التضحيات الجسام التي قدمها المواطن اليمني، وكيف أنه ما زال ينتظر الفرج من الحكماء القابضين على جمرة الاستحقاق الباهظ الثقيل.
على المتشائمين النظر إلى أن البلد ما زال حاضراً في مشهد القابلية العظيمة للتشافي والتعافي، وأن ينظروا للمعنى العميق وراء تداعي النخب السياسية والاجتماعية للقبول بعقد جديد، يضع الجميع أمام خارطة طريق للتنمية والتطوير.
لكن هذه الصورة التي ما زالت تحمل في طيَّاتها وتضاعيفها قدراً واضحاً من التفاؤل، تتقاطع مع صورة أخرى قاتمة داكنة، تتمثل في الحرب البينية الناشبة، تارةً بين الحوثيين والسلفيين، وأُخرى بين القبائليين المتصارعين على المراعي الوهمية، وطوراً بين الباحثين عن استعادة الدولة من جهة والذين يريدون تدميرها من جهة أخرى، وفي الغالب الأعم بين المُتدثرين بكلام النظام والقانون، وهم في الجوهر يعملون ضد كل نظام وقانون.
تلك المساجلات الدموية طوراً، والعُنفية النفسية غالباً، تؤثر إلى حد كبير على خيارات القائمين على أمر المؤسسة ونواميسها، كما تنعكس سلباً على المواطنين الحائرين.. القابضين على جمرة الأمل بمستقبل مغاير.
يلج اليمن طوراً جديا في مشروع التحدي للحاضر قبل الماضي واستتباعاته، ويسعد اليمن بالموقف التضامني الفريد الماثل للأشقاء في دول مجلس التعاون الخليجي، بقسط وافر من الدعم الناجز للانتقال السلمي نحو التغيير، فيما تنعم البلاد بموقف دولي موحد، عسير المنال في هذه الأيام التي تطل فيها الحروب الساخنة والباردة برؤوس حرابها القاتلة، حتى أن إدارة الحروب بالوكالة تقمَّصت أشكالاً شقلبانية أكروباتية، لم نعهدها في زمن الحرب الباردة على عهد الثنائي السوفييتي الأميركي.
إن كامل هذه المقدمات تتطلب من فرقاء الساحة اليمنية إدراك أن الكل منتصر إذا سارت الأمور قدماً نحو الدولة اليمنية الاتحادية الجديدة، وأن الكل مهزوم إذا ما عادت ثقافة الماضي غير المأسوف على خبوها وتلاشيها.
تلك هي الرسالة الناجزة لمؤتمر الحوار الوطني، الذي بقدر اختتامه الإجرائي تتواصل أجندته في الزمن المفتوح على التصالح والتسامح.. ذلك الزمن الذي أنقذ اليمنيين من متاهات كانوا في غنىً عنها، وجعل أشقاء الإقليم العربي المجاور مُراهنين على التوافق البيني اليمني، ووضع العالم في منصة التأييد الشامل لما يجري من حوار، وما سينجم عنه من نتائج.
نعم.. الكل مُنتصر في اليمن بقدر استمرار التوافق والتنازلات المتبادلة، والكل منهزم إذا ما تم الارتكاس لثقافة الماضي السياسي.