بعض الشخصيات لا تموت، يرحل الجسد وتغيب الملامح والقسمات، ويبقى الحضور خالدا، فالأعمال الجليلة والمواقف الثابتة لا يمحوها الزمن..

هكذا الحال مع العلامة الجليل القاضى محمد بن إسماعيل العمراني مفتى الجمهورية اليمنية السابق، الذي استيقظنا جميعا الاثنين الماضي على خبر رحيله الفاجع، حشود خرجت من كل حدب وصوب لتوديع الرجل تقديرا لمكانته وعلمه .. في مشهد يكسوه الحزن على الرحيل، ويغلفه الحنين إلي زمن كان فيه اليمن يذخر بأمثال العلامة محمد بن إسماعيل العمراني.

ثمانية عقود قضاها العالم الرحل في خدمة العلم والاجتهاد الديني، حتى صار من أبرز علماء اليمن متربعًا على كرسي الفتوى لعقود، ملتزمًا الوسطية والاعتدال، وإذا كانت حياة الإنسان لا تقاس بعدد السنين التي عاشها في دنيا الناس، فإن تلك العقود الثمانية توازي مئات السنين بمقياس الاجتهاد والإنتاج الفكري والجهود المتواصلة لخدمة الإسلام العقلاني الوسطي ، والاحتفاء بقيم الاعتدال والتعايش والمواطنة وإعلاء مصلحة الوطن فوق كل مصلحة.

فبرحيل شيخنا الجليل "العمرانى" خسرنا خسارة كبيرة لن تُعوض ، لِما تميز به من التزامٍ وتسامحٍ في علاقته بالمذاهب، علاوة على سعة علمه كعالمٍ كبير في الفقه والحديث، حتى كانت فتواه محل تقدير العلماء الذين شهدوا له .. فهو عالِم نهل من أمهات علوم الشريعة الإسلامية، واقتفى أثر شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني الذي أخذ جده منه العلم .. ولِهذا سُمي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني بـ "شوكاني" عصره.

لقد تربينا على أن ننهل من علمه ..

وكان والدي المناضل الجمهوري ورجل الأعمال / عبد الله ناصر الماوري - رحمة الله عليه - يأخذ منه الفتوى بشكل دائم سواء فيما يتعلق بتجارته أو في أمور الحياة بشكل عام .. وعندما أراد أن يكتب وصيته ذهب إليه طالباً فتوى شرعية للميراث والوصية ، فقد كان والدي رحمة الله لا تشغلَه تجارتُه عن ذكر الله تعالى، ولا عن الصلاةِ، ولا عن أداءِ حقِّ اللهِ في ماله، فقد أثنى الله تعالى على عباده المؤمنين الذين لا تشغلُهم تجارتُهم عن طاعته، وكان يذهب للعلامة القاضي العمراني ليتحرى الحلال ، وألا يدخل على نفسه وأهل بيته الحرام ، البعد عن المعاملات المحرمة والصفات الذميمة التي لا تليق بالمسلم ، كالتعامل بالربا ، وبيع الغرر ، وبيع العِينة ، والتجارة بالمحرمات ، والغش والكذب والخداع ونحو ذلك ، وكان والدي تاجرا مسلما صادقا أمينا كريما حسن الخلق حسن العشرة ودودا رحيما، يخاف أن يظلم نفسه أو غيره.

كما كان والدي –رحمة الله عليه - لديه علم بأحكام البيع والشراء ، إلا انه كانت تواجهه بعض من قصور في التعامل في ظل وجود كثرة الرشاوي، فكان يطلب الفتوى من العلامة القاضي العمراني ويأخذ بالفتوى لللعلامه العمراني رحمة الله عليه . 

ففي اليمن وكنتيجة من واقع الأحداث التي مرت بها البلاد في العقد الأخير يصعب الحديث عن شخصية وطنية وعلمية جامعة تحظى باحترام وتأييد الجميع لمواقفها، بل وتصبح جميع المواقف والآراء عنها مصدر اتفاق وتأييد جمعي، باستثناء القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني رحمه الله.

لم يتورط يوما في ما يمكن أن يسيء له ولمكانته الدينية والعلمية.

 لم يوظف الدين لخدمة أحد ولا لصالح  جماعة أو مذهب أو طائفة كما فعل كثيرون من رجال الدين.

تمكن القاضي العمراني من خلال مكانته الدينية كعالم ورجل دين، إضافة إلى اشتغاله في القضاء لسنوات، من فرض حضوره بين مختلف فئات الشعب وحكامه على حدا سواء.

لم تجُره انقلاب الأحوال السياسية في اليمن إلى التحيز تجاه حزب بعينه أو حكومة بعينها، فكان له رأيه وموقفه الخاص تجاه مجمل ما مرت به اليمن من أحداث.

كان ناقدا الاختلالات المرافقة لسياسة الجماعة الحوثية وتأثيرها على الأوضاع في اليمن، وهذا الأمر ما وضعه في مواجهة فكرية دائمة أمامهم، وهو ما استدعى محاولات عزله وتهديده بإحراق مكتبته، وجره بالترهيب والترغيب لكي كون صوتا من أصواتهم وأداة من أدواتهم الضاربة في وحدة وسلامة وأمن البلاد وعقيدته.

هل رأيتم كيف كانت جنازته التى لم ير القرن الواحد والعشرين مثلها؟

هى رسالة قبل أن تكون جنازة.

رسالة ترفض توطين الرافضة وهو بمثابة استفتاء شعبي 

رسالة تؤكد أنهم ماضون خلف منهاج الكتاب والسنة

رسالة تؤكد للرافضة أن فتواه تزعجهم حيا وميتا.

كانت استفتاءً شعبياً ضخماً 

صنعاء الحقيقية تكشف عن وجهها في جنازة القاضي العمراني اليوم

صنعاء الاعتدال لا التعصب 

صنعاء اليمن الكبير لا الصغير بالمناطقية والسلالية! 

إننا وبهذا المصاب الجلل نعزي أنفسنا وأسرته وأهله وطلبته ، ونعزي الأمتين العربية والإسلامية، سائلين المولى عز وجل أن يرحمه رحمة واسعة وأن يسكنه الفردوس الأعلى من الجنة وأن يجزيه عنا وعن المسلمين خيرا، وأن يأجرنا في مصيبتنا..إنا لله وإنا إليه راجعون.

* دبلوماسية وأكاديمية يمنية