تحليل .. السعودية تُذعن لضغوط الحوثيين، وتجبر البنك المركزي اليمني بعدن على التراجع عن قراراته
الخميس 25 يوليو 2024 - الساعة 11:00 مساءً
المصدر : الرصيف برس - مركز صنعاء للدراسات
استشعاراً للتهديد باستهدافها من جديد، أجبرت المملكة العربية السعودية الحكومة اليمنية على التراجع عن قراراتها الرامية إلى عزل جماعة الحوثيين (أنصار الله) عن النظام المصرفي الدولي. كانت العقوبات المالية التي اعتمدها البنك المركزي اليمني بعدن (التابع للحكومة) ورقة الضغط الأخيرة بيد الحكومة في مساعيها للتفاوض على انفراجة في الحرب الاقتصادية أو التأثير على ميزان القوى المختل أساساً قبل الدخول في محادثات السلام المرتقبة؛ لكن وتحت ضغط هائل من السعودية، ألغى مجلس القيادة الرئاسي اليمني الإجراءات الرامية الى تعزيز السيطرة على القطاع المصرفي وعزل المناطق الشمالية الخاضعة لسيطرة الحوثيين ماليا. سرعان ما أصبح موقف البنك المركزي اليمني بعدن ضعيفا من دون دعم سياسي، ووجد نفسه مجبراً نهاية المطاف على إلغاء قراراته. في اليومين الماضيين، أعلن مكتب المبعوث الخاص للأمم المتحدة بأن الحكومة وجماعة الحوثيين اتفقا على تدابير لخفض التصعيد، بما في ذلك إلغاء الإجراءات المالية ضد البنوك، والتوقف مستقبلاً عن أي قرارات مماثلة.
وصل التصعيد بين البنكين المركزيين المتنافسين في اليمن ذروته في 8 يوليو / تموز، حين ألغى البنك المركزي اليمني بعدن تراخيص ستة بنوك مقارها في صنعاء، [1] مهددا بعزلها عن نظام سويفت العالمي. جاءت هذه الخطوة تتويجا لسلسلة من الإجراءات اتخذها البنك المركزي اليمني بعدن – بتأييد من الحكومة – في محاولة لفرض السيطرة على النظام المالي في البلاد. رداً على ذلك، ظهر زعيم الحوثيين عبد الملك الحوثي في خطابين علنيين مهددا باستئناف الهجمات على السعودية إذا لم تتدخل المملكة، واستهداف الموانئ والمطارات السعودية إذا لم تتراجع الحكومة عن القرارات. بدا وأن الرياض كانت راضية بالبقاء على الهامش مع تصاعد الحرب الاقتصادية في اليمن، لكنها تحركت بسرعة بمجرد أن أصبحت مصالحها الخاصة على المحك.
قد يبدو الخلاف حافزا مستبعداً لتجدد العنف بين الحوثيين والمملكة العربية السعودية، حيث لا يزال الطرفان ملتزمان علنا بالتوصل إلى اتفاق سلام، لكن الكثير لا يزال على المحك، في ظل وجود أزمة حادة بدأت تتفاقم منذ فبراير/شباط الفائت (للاطلاع على الجدول الزمني للأحداث). فَرغم تراجع حدة العنف السياسي في اليمن بشكل كبير منذ إبرام الهدنة في أبريل/نيسان 2022، تصاعدت الحرب الاقتصادية بين الحوثيين والحكومة المعترف بها دوليا بصورة ملحوظة. فرض الحوثيون حصاراً فعلياً على صادرات النفط والغاز منذ استهدافهم موانئ تصدير النفط في الجنوب أواخر عام 2022 و استحوذوا على العائدات الجمركية في أعقاب تخفيف القيود المفروضة على ميناء الحديدة، وهو ما دفع الحكومة إلى حافة الإفلاس بحيث أصبحت تعتمد الآن كليا على المنح المالية المقدمة من السعودية.
ردا على ذلك، حاول البنك المركزي اليمني بعدن فرض السيطرة على النظام المالي، مستفيدا من العقوبات الدولية المفروضة على جماعة الحوثيين، عبر منعها من الوصول إلى نظام سويفت العالمي، سعياً للضغط على الحوثيين لتقديم تنازلات من طرفهم. كان البنك المركزي بعدن يأمل تحديداً في توسيع دائرة الحرب المالية كورقة ضغط للتفاوض على استئناف صادرات النفط والغاز التي كانت تُعد المصدر الرئيسي لإيرادات الحكومة.
كان لتهديد البنك المركزي اليمني في عدن بعزل البنوك الواقعة في مناطق الشمال الخاضعة لسيطرة الحوثيين ماليا، ومنع وصولها لنظام سويفت العالمي، وقع كبير في البيئة الاقتصادية الحالية التي يشهدها اليمن. فقد تسبب التدهور الاقتصادي الناجم عن عشر سنوات من الحرب بخسائر فادحة في مناطق سيطرة الحكومة وجماعة الحوثيين، ويواجه الحوثيون أزمة سيولة منذ فترة غير قصيرة ، فضلا عن متأخرات رواتب موظفي القطاع العام في المناطق الواقعة تحت سيطرة الجماعة غير المسددة منذ سنوات، والاستياء العام إزاء تعليق دفع المرتبات والتي أججت احتجاجات قلّ رؤيتها في الخريف الماضي.
كما أن إعادة تصنيف جماعة الحوثيين من قبل الولايات المتحدة ككيان إرهابي عالمي مصنف بشكل خاص، وحالة العزلة التي تعيشها الجماعة على المستوى الدولي ككيان منبوذ عقّد من قدرتها على الوصول للنظام المالي. إلاّ أن واقع المشهد الاقتصادي يعني أن أي انقطاع في التدفقات النقدية أو في تمويل التجارة سيترتب عليه عواقب وخيمة، لا سيما في ظل اعتماد اليمن الكبير على الواردات وعلى التحويلات المالية.
تتفاقم التحديات مع الإنفاق العسكري الهائل من قبل الحوثيين الذي يمتلكون عددا هائلا من المقاتلين، لا سيما مع تزايد العدد بسبب تجنيد مقاتلين جُدد منذ اندلاع حرب غزة، حيث تستنزف الجماعة موارد كبيرة مُحصّلة من الجبايات ورسوم الحوالات المالية لإطعام قواتها. على هذا الأساس، شكّل قرار عزل البنوك وتقييد التحويلات المالية تهديدا حقيقيا قد يتسبب بشلل الاقتصاد وإرخاء قبضة الحوثيين وتحكمّهم، وبالتالي حملت هذه السياسة في طياتها خطر حدوث تصعيد عسكري – وهي مجازفة لم تكن الرياض على استعداد لخوضها.
وفقا لمصادر تحدثت إلى مركز صنعاء -شريطة عدم الكشف عن هويتها- بذل السفير السعودي محمد آل جابر قصارى جهده لإجبار الحكومة اليمنية على التراجع عن تلك الإجراءات. لم تفلح جهوده في تغيير موقف محافظ البنك المركزي اليمني بعدن أحمد غالب، الذي ظل صامداً رغم التهديدات والإغراءات، ليُظهر آل جابر بعدها – وبوضوح – قبضة الرياض الخانقة على مجلس القيادة الرئاسي، حيث استدعى أعضاء المجلس إلى اجتماع وهدّد بقطع التمويل تماماً عن الحكومة ما لم يتم التراجع عن إجراءات البنك المركزي اليمني بعدن. بعبارة أخرى، كان هذا يعني إلغاء منح الوقود والودائع النقدية والمساعدات التنموية، كما ألمح السفير السعودي إلى أن الحكومة ستواجه مصيرها بمفردها في حال لجأ الحوثيون للانتقام عسكرياً.
كان استغلال السعودية لواقع السياسة اليمنية إحدى السمات التي ميزت الحرب في اليمن. فَسرعان ما أذعن مجلس القيادة الرئاسي لمطالب السعوديين، وأماط اللثام عن شرعيته الزائفة كحكومة مستقلة لها سيادة على قراراتها. لا أحد يستطيع التكهن بالمسار الذي كانت ستسلكه السعودية لو أن الحكومة صمدت بحزم على موقفها. تولى آل جابر قيادة محادثات السلام بين المملكة وجماعة الحوثيين، وقدمت السعودية سلسلة من التنازلات لاسترضاء الجماعة تحت إشرافه.
وقد أوضح الجابر الخط الفاصل بين الأولويات السعودية واليمنية متى ما رأت الرياض وجود تهديد على أمنها نتيجة أي خيارات تتخذها الحكومة وأنها مستعدة لتنفيذ تهديداتها، حيث قيل إنه قال لمجلس القيادة الرئاسي بأن “قرار البنك يمثل إعلان حرب والجميع ليس مستعداً لذلك”. وحتى لو رأى الكثيرون أن السعودية قد أنهت انخراطها فعلياً في الصراع، ما تزال المعارك والمعاناة مستمرة في اليمن.
الأمم المتحدة تضغط من أجل خفض التصعيد
في بادئ الأمر، رفض الحوثيون جهود الأمم المتحدة للوساطة، لكن مكتب المبعوث الأممي الخاص بعث برسالة إلى رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي، يحثه فيها على تأجيل قرار البنك المركزي اليمني بعدن. يسلط انخراط مكتب المبعوث الأممي الخاص الضوء على جانب مهم في الأزمة، والذي لا ينبغي غض الطرف عنه في غمار “سياسة حافة الهاوية”: فالانقسام الاقتصادي والمالي الذي تشهده البلاد ستترتب عليه تبعات خطيرة وربما مدمرة، وعزل البنوك وشركات الصرافة عن النظام المالي العالمي سيؤثر سلبا على الأعمال التجارية وعلى تدفق التحويلات المالية.
عانى الاقتصاد اليمني من الشلل بسبب عقد من الصراع، وأي ضغوط إضافية لن تحقق سوى أوضاع إنسانية وخيمة، ليس أقلها تعطيل القدرة على تقديم المساعدات. يتم تداول عملتين في الأسواق المالية اليمنية بسعري صرف متباينين، ورُغم أن الانقسام الدائم في النظام المصرفي ومؤسسات الدولة قد يصبح أمراً لا مفر منه في نهاية المطاف، لا ينبغي التشكيك بأن تداعيات ذلك على الاقتصاد ستكون وخيمة وأليمة بصورة استثنائية.
في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن الأمم المتحدة بذلت جهودا للملمة الانقسام الاقتصادي، والعمل على تيسير حركة التجارة عوضاً عن استخدام التجارة كسلاح. في غضون ذلك، لا تزال خارطة الطريق السعودية هي الخيار الوحيد المتاح للمضي في محادثات السلام، وقد أبدى الجانبان (الحكومة وجماعة الحوثيين) الآن التزامهما بالخارطة. وبغض النظر عما إذا كانت الرياض استغلت الأمم المتحدة كوسيلة لتوفير غطاء سياسي أم لا، كانت الأمم المتحدة ستعارض دائما المزيد من التصعيد.
تعيد هذه الواقعة جزئيا إلى الأذهان اتفاق ستوكهولم المبرم عام 2018 والذي توسطت فيه الأمم المتحدة، حيث أوقف الاتفاق تقدم القوات المدعومة من الإمارات إلى الساحل الغربي، بسبب مخاوف من تعطل تدفقات المساعدات عبر ميناء الحديدة. لطالما أثار الوضع الإنساني غير المستقر في اليمن مخاوف من أن يؤدي إغلاق الميناء إلى انحدار البلاد إلى آفة المجاعة. لكن الاتفاق القاضي بالانسحاب لم يُنفذ بالكامل، ليحتفظ الحوثيون بالسيطرة الكاملة على الميناء وبات يُستخدم اليوم لتهريب الأسلحة وتسهيل الهجمات ضد سفن الشحن التجارية في البحر الأحمر. صحيح أنه لا ينبغي أبدا الاستهانة بخطر حدوث مجاعة وبتداعيات الوضع الإنساني، لكن من المهم موازنة هذه الاعتبارات مع اعتبارات أخرى على المدى الطويل تضع في صميمها نتائج الصراع والمعاناة التي تنجم عنها. إن أي إجراء قسري ينطوي على مخاطر تهدد الوضع الهش في البلاد.
لا بد من الإشارة الى أن الجانب الحكومي أكثر مرونة ويمكن ثنيه عن التصعيد، حيث اضطر مرتين حتى الآن إلى إجهاض مساعيه لإعادة التوازن في سلطة صنع القرار في اليمن؛ بالمقابل لم ينجح التحالف الذي تقوده السعودية والمجتمع الدولي في انتزاع تنازلات مماثلة من الحوثيين. كانت النتيجة هي اختلال أكبر في ميزان القوة بين الجانبين.
نقاط ضعف الحكومة تَنكشف للعلن
تكشف أزمة البنك المركزي عن عدة أوجه من الواقع السياسي في اليمن، ولا ينذر أي منها بالخير في ظل المساعي للتوصل إلى تسوية تفاوضية. أولاً هيمنة السعودية شبه الكاملة على السياسة اليمنية، فقد تم تشكيل مجلس القيادة الرئاسي واختيار أعضائه من غرفة عمليات سعودية – إماراتية، وكانت الحكومة تعتمد على دعم هاتين الدولتين طوال فترة الصراع.
مع تضرر وانقطاع مصادر إيراداتها، وجدت الحكومة نفسها مرارا على حافة الإفلاس وباتت تعتمد الآن كليا على الأموال السعودية لدفع المرتبات وتوفير الخدمات الأساسية وتحقيق الاستقرار في سوق العملة. وبديهياً، كانت أبرز نتائج هذه الهيمنة هي إذعان الحكومة لأية إجراءات تلبي مصالح السعودية وتحقق أهداف سياساتها.
كانت الرياض واضحة بشأن رغبتها في إبرام صفقة تكفل خروجها من مستنقع الحرب في اليمن، وبأي ثمن؛ وبالتالي لا أحد يتوقع أن تجازف بهذا، لا سيما بعد أن سعت سعيها ووصلت بالمحادثات إلى تلك المرحلة. تعمدت الرياض تقويض مجلس القيادة الرئاسي وابقائه ضعيفا وغير قادر على ممارسة ضغوط ملموسة على قوات الحوثيين، وحين لوّحت الحكومة بآخر ورقة ضغط كانت تمتلكها – أي الاعتراف الدولي بسلطتها على النظام المالي – شرعت السعودية إلى تقويض هذا أيضا عبر تهديدها بقطع دعمها للحكومة، والذي كان سيتبعه حالة من الانهيار والفوضى لا محالة.
فضلا عن ذلك، أظهر تراجع الحكومة عن تلك القرارات النفوذ المذهل الذي يتمتع به الحوثيون حالياً. تسيطر الجماعة على المناطق التي تحتضن غالبية سكان اليمن – بما في ذلك العاصمة صنعاء – وتحافظ على تفوق عسكري وعزيمة لا تلين رغم سنوات من الغارات الجوية التي شنها التحالف بقيادة السعودية، ولم يردعها تحالف الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي للتصدي لصواريخها وطائراتها المسيرة المستهدفة لسفن الشحن التجارية في البحر الأحمر، وفي حين تعتبر الحكومة مرتهنة بشكل كُلي للسعودية، وتقديم الرياض تنازلات بلا حدود، تبدو قيادة الجماعة في وضع فريد يُمكّنها من إملاء رغباتها على أطراف الصراع في اليمن، وأصبحت تتمتع بقدر من الحرية لشن حرب عسكرية واقتصادية، لتعترض بعدها على أي ردّ انتقامي من الحكومة.
في غضون ذلك، لا تزال الجبهات نشطة في اليمن، وهناك قلق بالغ من أن تستغل الجماعة تفوقها العسكري وأوراق ضغطها في محاولة أخرى لانتزاع السيطرة على حقول النفط والغاز الاستراتيجية الواقعة خارج حدود مأرب.
يظل مستقبل اليمن ضبابيا، حيث تعرضت كل من الرياض ومجلس القيادة الرئاسي للإذلال. بعد التضحية باستقلالية وسيادة اليمن في صنع القرار على مذبح المخاوف الأمنية السعودية، ستحتاج أي تسوية تفاوضية للصراع إلى استيعاب توازن القوى المختل بصورة غير مسبوقة والأولويات والحسابات الأخرى للمملكة. وبحسب المعلومات الواردة، فإن الوضع في الرياض مشحون بالتوتر حاليا؛ فَبعد تقاربها مع إيران، تأمل السعودية اليوم في إبرام اتفاقية دفاع رسمية مع الولايات المتحدة مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل، حيث يُمكن أن تمنحها الضمانات الأمنية الأمريكية اليد العليا في المحادثات مع الحوثيين. إلاّ أن عجز الولايات المتحدة عن ردع هجمات الحوثيين في البحر الأحمر والغارة الإسرائيلية الأخيرة على ميناء الحديدة تزيد من تعقيد الأمور، ويبدو أن الرياض تنتظر انتهاء الحرب في غزة وما نجم عنها من توترات إقليمية قبل أن تستأنف محادثات السلام في الملف اليمني. في غضون هذا، تستمر معاناة اليمن اقتصاديا وعسكرياً.
في سياق متصل، غابت الإمارات (الشريك الأصغر للرياض في التحالف) بشكل ملحوظ عن مربع الأزمة الأخيرة. رفضت أبو ظبي في وقت سابق مبادرات للانضمام إلى المحادثات السعودية – الحوثية، ويبدو أنها مكتفية بدعم قواتها بالوكالة في الجنوب وبانتظار أي فك ارتباط محتمل بين شمال اليمن وجنوبه. وقد أوضح عضوا مجلس القيادة الرئاسي المدعومان من الإمارات – طارق صالح و عيدروس الزبيدي – أن الكيانين التابعين لهما – قوات المقاومة الوطنية والمجلس الانتقالي الجنوبي على التوالي – يدعمان سياسات البنك المركزي في عدن، حتى لو كانا متوافقين مع الرياض كأعضاء في مجلس القيادة.
من جهة أخرى، أعلنت أحزاب سياسية تأييدها موقف البنك، وخاصة حزب الإصلاح، بينما نددت مظاهرات شعبية بتدخل الأمم المتحدة لثني الحكومة عن القرارات. خلاصة القول، تم تقويض شرعية مجلس القيادة الرئاسي الهشة أساساً بصورة أكبر، ولن تؤدي طعنته الواضحة للبنك المركزي سوى إلى تعميق الانقسامات في معسكر الحكومة.
مستقبل البنك المركزي
بالنسبة للبنك المركزي اليمني بعدن، يمثل إذعان الحكومة للهيمنة السعودية خطوة مدمرة واستسلام مأساوي. عملياً، تم تقويض استقلالية البنك كسلطة نقدية معترف بها دوليا في اليمن؛ أما محلياً، فسوف تتزعزع صورة البنك المركزي اليمن بعدن كمؤسسة مالية ذات مصداقية، وتتضاءل سلطته التنظيمية، الأمر الذي قد يشجع منتفعي الحرب وأمراء السوق السوداء. خارجياً، قد تتسبب الخطوة في تقويض – وبشكل نهائي- الاعتراف الدولي به كبنك مركزي لليمن.
ووفقا لبيان مكتب المبعوث الأممي الخاص ، فإن تدابير خفض التصعيد المتفق عليها يمكن أن تتجاوز إلغاء القرارات ضد البنوك الستة، وهو ما قد يؤدي إلى تفكيك الإطار التنظيمي الذي صمّمه البنك المركزي اليمني بعدن بشق الأنفس منذ فبراير/ شباط الفائت، بأكمله.
حظي محافظ البنك المركزي بعدن، أحمد غالب، بإشادة كبيرة في الأوساط اليمنية على صموده بثبات وعزيمة قوية في مواجهة الحكومة والضغوط السعودية، ويقال إنه لا يزال يتمتع بدعم مجلس إدارة البنك المركزي. قدم غالب استقالته حالياً، كما فعل وكيله منصور راجح، الذي كان مسؤولا عن تعيين عدد كبير من أعضاء الفريق الفني للبنك. هذا ومن غير المرجح أن يتم قبول استقالة الرجلين، فمغادرتهما منصبيهما سيضر أكثر بمصداقية البنك المركزي واستقلاليته، اللذين تزعزعا بالفعل في نظر الكثيرين.
لكن وبغض النظر عما إذا كانا سيغادران منصبيهما أم لا، فقد وقع الفأس في الرأس، وتضررت سمعة البنك المركزي، بل وقد تنحسر سلطته أكثر لصالح اللجنة الاقتصادية التي شكلت رسمياً – بإشراف سعودي لرفد مجلس القيادة الرئاسي وتقديم المشورة له في المسائل الاقتصادية. ولكن عملياً، تعتبر اللجنة أداة للسعودية لفرض رقابتها.
إن فشل مناورة البنك المركزي يُبرز وبشكل واضح الكذبة التي شكّلت جوهر التدخل السعودي؛ فَلطالما أرادت الرياض أن تقدم نفسها كوسيط في الصراع عوضاً عن طرف رئيسي في الحرب، إلاّ أن حالة القلق الوجودي الذي تعيشه المملكة لا يخدم اليمن.
لقد خسرت الرياض حربها في اليمن، ولا يمكن للطرف الخاسر أن يعيد تصدير نفسه كوسيط فعّال أو أن يملي شروط اتفاق السلام.
قد يعتقد السعوديون أنهم حققوا إنجازاً بتغيير مسار الأزمة المصرفية وحافظوا على الوضع الذي كان قائما من قبل، لكنهم في الواقع قدموا المزيد من التنازلات لسلطة الحوثيين وعملوا على تحصين الجماعة من الضغوط والعزلة المالية. ويبقى الأكيد أن الحرب لم تنته، لكن الرياض تمارس الآن اللعب على الحبلين. وما لم يتمكن السعوديون أو الإمارات أو المجتمع الدولي من استجماع الإرادة لضبط سلوك الحوثيين أو تحفيز الجماعة للالتزام بتسوية سياسية تفاوضية، علينا توقع استمرار القتال وانتصارات الحوثيين.