تقرير: كيف تسهم سلاسل الإمداد في تأجيج الصراعات العابرة للحدود في الشرق الأوسط؟
الثلاثاء 26 نوفمبر 2024 - الساعة 06:46 مساءً
المصدر : الرصيف برس - Chatham House - ترجمة: ناهد عبدالعليم
أصبحت الصراعات في الشرق الأوسط "عابرة للحدود" بشكل متزايد، حيث تمتد إلى ما وراء الحدود الوطنية وتتداخل مع التجارة الإقليمية والعالمية.
و تتعاون الحكومات والمؤسسات الرسمية مع التجار غير الرسميين والجماعات المسلحة لتشغيل سلاسل إمداد قانونية وغير قانونية، تنقل الأشخاص ورؤوس الأموال والبضائع عبر طرق تمتد في إيران، و العراق، و تركيا، وبلاد الشام.
و إحدى المجموعات المرتبطة بهذه الديناميات الإقليمية هي "محور المقاومة"، الذي يرى دوره متمثلًا في مواجهة "الإمبريالية" الإسرائيلية والأمريكية في الشرق الأوسط.
و يربط محور المقاومة بين إيران، وحزب الله في لبنان، وقوات الحشد الشعبي في العراق، ونظام الأسد في سوريا، وحركة حماس في غزة، والحوثيين في اليمن. و مثال آخر هو حزب العمال الكردستاني (PKK)، الذي يواصل كفاحه المسلح القومي ضد الدولة التركية عبر العراق وسوريا وتركيا.
و المجموعات مثل "محور المقاومة" تطمس الحدود بين الأنشطة المشروعة وغير المشروعة وبين الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية، حيث تعمل داخل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية وتؤثر عليها. و تشكل هذه المجموعات جزءًا من هياكل صنع القرار في عدة دول في المنطقة، بما في ذلك لبنان وسوريا والعراق وإيران واليمن.
و تتناول هذه المقالة كيفية عمل هذه المجموعات واكتسابها القوة من خلال التجارة العابرة للحدود، وذلك عبر دراسة ثلاث حالات: سلسلة إمداد الطماطم التي يُفترض أنها "مشروعة"، وسلسلة إمداد المخدرات "غير المشروعة"، وديناميكيات النزاع حول مركزين رئيسيين للصراع في العراق، بلدتي القائم والرطبة.
كما تشرح المقالة كيف أن استخدام الضربات العسكرية والعقوبات فشل في تقليل النزاعات أو التجارة غير المشروعة، بل أدى إلى إلحاق ضرر غير متناسب بالسكان المحليين.
و فهم هذه السلاسل الإمدادية يوفر رؤى حاسمة حول ديناميكيات القوة الحقيقية التي تربط الشرق الأوسط.
• التجارة "المشروعة" للطماطم:
يُعد العراق محورًا في شبكة التجارة الإقليمية، حيث تمر عبر حدوده كمياتٍ كبيرة من البضائع المتجهة إلى دول المنطقة. وتمثل المنتجات الزراعية جزءًا كبيرًا من هذه التجارة، حيث تُعد إيران المصدر الرئيسي للمحاصيل إلى العراق.
و تمارس النخبة السياسية في العراق، التي يرتبط بعض أفرادها بجماعاتٍ مسلحة متحالفة مع إيران، نفوذًا كبيرًا على هذا القطاع. و يشمل هذا النفوذ تأمين طرق النقل، وإدارة مراكز العبور، وتخصيص العقود الزراعية، وتنظيم المعاملات المالية.
و يتم ذلك من خلال سيطرتهم على المناصب العليا في الأجهزة الأمنية والخدمة المدنية داخل الحكومة.
و يسمح لهم هذا النفوذ بالتأثير على القرارات المتعلقة بالواردات، والضرائب، والممارسات التنظيمية، مما يمنحهم سيطرة كبيرة على حياة المواطنين العاديين. وفي البصرة، كما هو الحال في مناطق أخرى من جنوب العراق، تسيطر جهات مرتبطة بجماعاتٍ مسلحة متحالفة مع إيران على العديد من هذه العمليات.
و في بعض الأحيان، تُستخدم واردات المحاصيل كغطاء لعمليات تهريب تشمل منتجات زراعية محظورة، ومخدرات، وأسلحة إلى العراق وعبر بلاد الشام. وغالبًا ما يتم تبادل هذه البضائع المهربة بالدولار الأمريكي، الذي يعاد تداوله في إيران أو يُرسل إلى سوريا ولبنان. ونتيجة لذلك، أصبح القطاع الزراعي العابر للحدود مرتبطًا بشكل وثيق بالجماعات المسلحة.
كما تُحدِث سلسلة إمداد الطماطم آثارًا خطيرة على المجتمع العراقي، حيث يُحرم المزارعون من مصدر رزقهم مع تدفق الطماطم الإيرانية الأرخص سعرًا إلى الأسواق.
و تعاني الأراضي الزراعية من دمار واسع النطاق بسبب الفصائل المسلحة التي تسعى للقضاء على المنافسة، مما يعرض السكان لمخاطر صحية، بما في ذلك حالات التسمم الغذائي الناتجة عن منتجات غير خاضعة للرقابة. (في جميع أنحاء العراق، يتم إتلاف ما بين 40 إلى 60 طنًا من المنتجات غير الصالحة للاستهلاك، بما في ذلك الطماطم، كل شهر).
كما ترتبط تجارة الطماطم بعمليات تهريب المخدرات؛ ففي عام 2023، صادرت السلطات السعودية مليوني حبة من الكبتاغون مخبأة داخل شحنة طماطم على الحدود مع الأردن.
و قد فرضت الحكومة العراقية بشكل متقطع حظرًا على استيراد بعض المنتجات، بما في ذلك الطماطم، في محاولة للحد من المخاطر المرتبطة بتدفق المنتجات الزراعية الإيرانية ذات الجودة المتدنية. و بدأ أحدث حظر في أكتوبر/ تشرين الأول 2023. ومع ذلك، أثبتت هذه الإجراءات عدم فعاليتها تاريخيًا؛ حيث فشلت قيود مماثلة في عام 2020 في منع دخول الشاحنات المحملة بالطماطم إلى العراق.
و المشكلة تكمن في أن سلسلة الإمدادات الزراعية تشمل شبكات عابرة للحدود بين إيران والعراق غالبًا ما تتجاوز الرقابة الحكومية. وبالتالي، فإن الإجراءات المنفصلة، مثل حظر المنتجات في دول محددة، لا تؤتي ثمارها في هذا السياق.
و حتى تكون السياسات فعالة، يجب أن تشمل جميع النخب المؤثرة، سواء كانت تعمل داخل الأطر الحكومية أو خارجها، مع إنشاء آليات حوكمة شفافة. بهذه الطريقة، يمكن أن يصبح القطاع الزراعي أكثر استجابة ومساءلة أمام سكان المنطقة بأسرها.
• التجارة "غير المشروعة" للمخدرات:
شهدت تجارة المخدرات في السنوات الأخيرة زيادة كبيرة في إيران وسوريا ولبنان والعراق، وامتدت إلى دول أخرى مثل الأردن والسعودية. و تشمل هذه المخدرات الكبتاغون والميثامفيتامين (الكريستال ميث)، وغيرها.
و قد استغلت الجماعات المسلحة العراقية المتحالفة مع إيران نفوذها على المعابر الحدودية الرئيسية، مثل القائم مع سوريا والشلامجة مع إيران، لتسهيل عمليات التهريب.
و تُعد هذه الجماعات جزءًا أساسيًا من التحالفات الإقليمية الأوسع نطاقًا، حيث تستفيد من موقعها لتسهيل تجارة المخدرات وتحقيق أرباح كبيرة منها.
و لم تؤدِ هذه التجارة المتنامية إلى تعزيز قوة ونفوذ هذه الجماعات المسلحة فحسب، بل أحدثت أيضًا اضطراباتٍ كبيرة في المجتمعات المحلية في العراق ولبنان وسوريا، خصوصًا في المناطق القريبة من المدن الحدودية. وقد أدى ذلك إلى استدراج الشباب نحو تعاطي المخدرات والمشاركة في أنشطة التهريب.
و هذه المجتمعات، التي غالبًا ما تكون ضعيفة ومهمشة، تُجبر على الانخراط في أنشطة غير قانونية، وتتعرض للابتزاز من قبل الميليشيات المهيمنة.
وقد صرّح وزير الداخلية العراقي السابق أن أكثر من 50% من الشباب العراقي باتوا مرتبطين بالمخدرات بشكل أو بآخر.
و تتصاعد قضية تهريب الكبتاغون لتتحول إلى مشكلة عابرة للحدود ذات أبعاد خطيرة، خاصة في دول الخليج. ففي السعودية، على سبيل المثال، ارتفعت عمليات ضبط الكبتاغون بشكل كبير، حيث تضاعفت الكميات المصادرة من أقل من 30,000 كيلوغرام في عام 2020 إلى أكثر من 70,000 كيلوغرام في عام 2021.
• مراكز الصراع – حالة معبري القائم والرطبة الحدوديين في العراق:
تلعب بعض المراكز الجغرافية المحددة، أو ما يُعرف بـ "العقد"، دورًا مهمًا في تطور تجارة المحاصيل والمخدرات. ومن بين هذه المناطق، سنجار في العراق.
و منطقة أخرى هي معبر القائم الحدودي بين العراق وسوريا، وهو جزء من الحدود العراقية تم تعزيزها بعد هزيمة داعش في عام 2017.
و منذ ذلك الحين، أدى التنافس على طرق التجارة المختلفة في القائم إلى ظهور أشكال جديدة من عدم الاستقرار والعنف.
أما في الرطبة، وهي بلدة عراقية قريبة من الحدود الأردنية، فقد دفعت السياسات الهادفة لتأمين الحدود للجماعات المسلحة والتجار إلى نقل عملياتهم إلى القائم.
نتيجة لذلك، أصبحت الرطبة تعاني من تقلص الفرص الاقتصادية ومشكلات تتعلق بالوصول المحدود إلى البضائع والخدمات والرعاية الصحية، بما في ذلك الخدمات الصحية النسائية الحيوية.
حيث أوضحت إحدى النساء من البلدة، خلال نقاش جماعي أُجري مع المؤلفين، أن "حظر التجوال الليلي والمسافة الطويلة بين الرطبة والرمادي يجعل النساء الحوامل أكثر فئة تكابد معاناة". و هذا النقص في الوصول أدى إلى تعرض النساء لمشكلات صحية خطيرة، بما في ذلك حالات وفاة.
و بدورها، أدت زيادة التجارة عبر القائم إلى زيادة عدد الجماعات المسلحة الموجودة في البلدة، مما ساهم في عسكرية المنطقة.
و تقوم هذه الجماعات بفرض ضرائب على تدفق البضائع وتفرض الرقابة على المنطقة لمنع معارضة النظام ومعاقبة المخالفين، مما يخلق آثارًا سلبية على المزارعين والزراعة في المدينة. حيث تمركزت الجماعات المسلحة حول 500 مشروع زراعي مملوك للمزارعين المحليين.
وأخيرًا، منحت هذه الديناميكيات الجديدة هذه الشبكات عبر العراق القوة وسمحت لها بترسيخ وجودها في سوريا المجاورة، مما زاد من حركة الأسلحة والمخدرات عبر الحدود.
و في حالة الرطبة والقائم، كانت سياسة تأمين المعابر الحدودية مجرد تصدير للعنف المسلح من بلدة إلى أخرى، بينما أدخلت أشكالًا جديدة من العنف غير المباشر على السكان.
• التداعيات السياسية:
يسلط هذا التحليل الضوء على قضية حاسمة: نفس الجهات الفاعلة والشبكات التي تتحكم في التجارة التي تبدو غير ضارة، مثل المحاصيل أو الأدوية، هي نفسها التي تتحكم في سلاسل الإمداد غير القانونية والخطيرة مثل المخدرات والأسلحة. و تتبع المخدرات والمنتجات الزراعية والأدوية جميعها نفس طرق التجارة، التي يسهلها التواطؤ بين الجهات الفاعلة الرسمية وغير الرسمية.
و تعتمد هذه الجهات الفاعلة على الروابط مع الحكومات المحلية والوطنية، من خلال الفساد الذي يباركه السياسيون، للوصول إلى الأموال الحكومية والحفاظ على سلطتها على هذه السلاسل الإمدادية ومراكز الصراع.
و يتم تمكين هذه الجهات الفاعلة بشكلٍ أكبر من خلال اتصالاتها العابرة للحدود.
ومع ذلك، فإن صُنع السياسات الدولية في الشرق الأوسط غالبًا ما يركز على الأبعاد المحلية أو الوطنية للصراعات، دون النظر بفعالية أو التنقل بين الديناميكيات الإقليمية أو العابرة للحدود الأوسع.
و غالبًا ما تكون استجابات السياسات، مثل العقوبات، والضربات العسكرية، وتأمين الحدود، غير فعّالة. و يستخدم أطراف النزاع شبكاتهم عبر الحدود لتجاوز الاضطرابات التي تؤثر على عملياتهم. بدلاً من ذلك، غالبًا ما تضر هذه الاستراتيجيات الجمهور أكثر من النخب التي تستهدفها.
لذا، فإن السياسة الفعّالة ستتطلب فهم الديناميكيات العابرة للحدود للنزاع وكيف أن الجماعات المسلحة، بالتعاون مع البيروقراطيين الحكوميين والتجار الخاصين، قد سيطرت على التجارة المشروعة وغير المشروعة عبر الشرق الأوسط.
و لا يمكن تحقيق المساءلة إلا من خلال إشراك الفاعلين ضمن هذه الشبكات العابرة للحدود: على سبيل المثال، من خلال تسهيل الاتفاقيات عبر الحدود ومشاركة المعلومات حول تهريب المخدرات بين الدول.
كما يجب أن توفر السياسات أيضًا موارد للتأهيل وفرصًا اقتصادية في شكل سبل معيشة بديلة ومستدامة، لمنع المزيد من المجتمعات في العراق ولبنان وسوريا من الانخراط في تجارة المخدرات.
و بشكلٍ أساسي، يجب على صانعي السياسات أن يتجاوزوا الثنائيات الزائفة مثل الرسمي وغير الرسمي، والشرعي وغير الشرعي، والدولة وغير الدولة، وأن يؤسسوا استجاباتهم السياسية في الديناميكيات العابرة للحدود التي تشكل النزاع في المنطقة.