ليس لأنه والدي فقط بل وفاءً لذكرى رجل عظيم
الخميس 27 يناير 2022 - الساعة 12:05 صباحاً
أحمد شوقي أحمد
مقالات للكاتب
الفيلسوف الثوري، الشاعر والأديب والمثقف النوعي، وقبل ذلك وبعده عالِم الرياضيات الذي اغتالته الظروف على قارعة الفُرصة قبل اكتمال المشروع,,
وُلد أبي وتربى في بيئة صعبة، توفيت والدته وهو طفل، وعاش حياةً قاسية في كنف جدَّةٍ فقيرةٍ ترملت وهي مراهقة، لترعى أيتاماً وأبناء أيتام,,
ورُغم ظروفه القاسية، تفوق والدي في دراسته، وفي الثانوية العامة، حصلَ على درجاتٍ عالية، وحصد في مادة الرياضيات على معدل 100% في فروع الرياضيات الأربعة ميكانيكا الكم، الهندسة، التفاضل، التكامل. وما زلت أحتفظ بشهادة تخرجه ممهورة بتوقيع الدكتور عبد الكريم الإرياني الذي كان وزيراً للتربية والتعليم آنذاك.
كما - وعلى الرُغم - من إمكانات عائلته الكبيرة والنافذة جينئذٍ، والتي تملك إقطاعاً واسعاً من الأرض والممتلكات وقرى بكاملها ووديان وسفوح، لم يحظ والدي بمساعدة,,
بموجب منحة تفوق؛ التحق والدي للدراسة بجامعة الإسكندرية، في قسم الاقتصاد والعلوم السياسية، وفي مباغتةٍ غريبة، اقتحمت شقته، وتم اعتقاله من قبل الأمن الوطني المصري "المخابرات العامة" في ظروف ما زالت ملابساتها مجهولةٌ لديّ حتى اليوم, الأمر الذي أثر عليه صحيَّاً ونفسيًّاً، حيثُ خرج من المُعتقل شخصاً آخر، فاقداً الأمل في كلّ شيء، خصوصاً بعد رسوبه في ذلك العام على غير عادته,,
رَحَل والدي، عائداً إلى اليمن، دون أن يكمل دراسته الجامعيَّة، وفي اليمن، كانت رحلة المرض واللا عودة،، حتى وفاته.
لا يمكن – مهما بلغت أو بالغت – أن أصف الحياة الظالمة التي عاشها والدي، والأذى والسوء والقسوة التي طالته من القريب والغريب، كما لن أتمكن من وصف النُبل الشديد والنقاء والنزاهة والإنسانية الرفيعة ورقة المعشر وطيب المعدن الذي كان يتمتعُ بِه، لكنّ من عرفوهُ حقاً، يدركون إلى أي حدٍّ كان نبيلاً وسامياً، وإلى أي مدى بلغ الظلم والقسوة والألم اللذين تعرض لهم هذا الفتى رقيق الحشيَّة والسريرة,,
في طفولتي؛ كُنتُ أكرهُ المديح المُفرط الذي أسمعهُ من الناس عن والدي، لاعتقادي، بأنَّهُ نوعٌ من الإطراء المبالغ فيه والذي يُسبغهُ الآخرين عليه بدافع الشفقة والمواساة لكوني ولدتُ (يتيماً)، لكن حينما كبُرتُ، كنتُ أرى أكثر الناس صلفاً، أو حتى نفوراً، يمتدحونَ والدي بتصوُّفٍ عالٍ، وكأنهم يتحدثون عن ملاك قابلوهُ في أصفى أحلامهم، لا عن بشرٍ عاديّ.
من الناس، ومن رسائله العائلية القليلة المتبقية من مجموع إرثه من المذكرات والكتابات التي أُحرقت من قبل نسائنا الخائفات من حملات التفتيش والملاحقات السياسية، عرفتُ عن والدي: ثقافته الواسعة، ومهاراته الكتابية الأدبية والفكرية العالية، ونقاشاته السياسية والفلسفية الصريحة وانطلاقه الفكري وانفتاحه ولياقتهُ، كما عُرف باهتماماته ونشاطه السياسي الذي ما زلتُ إلى اليوم أجهل فيما إن كان مُؤطراً أو مستقلاً من حيث الانتماء الحزبي، لكنّ سمعتُ الكثير عن قدراته الفكرية والسياسية والثقافية والإبداعية والعلمية من معاصريه وطلابه الذين درسوا على يديه،
كما عُرف والدي بذكائه الاستثنائي، وخجله الشديد، ودماثة أخلاقه، ومحبته للناس ومحبة الناس له، وعُرف أيضاً بحبه الشديد للتعليم، إذ ظل حتى آخر أيام حياته المرجع الأول لجميع طلاب الرياضيات في كل المستويات بمحافظة الحُديدة،،
في مراهقته، أصيبت إحدى شقيقاته بحادث مؤسف؛ تولى والدي رعايتها والعناية بها، وقد أخذت عنه حُبَّه للتعليم، كان وقتها تعليم الفتيات مُحرَّماً ومُجرماً وممنوعاً بشدة، كان عم والدي، وهو شيخ قبيلتنا، يقفُ أثناء الامتحانات بنفسه، يترصد، من تسول له نفسه إحضار ابنته أو أخته لدخول امتحانات التعليم الأساسي، ولم يكن احد ليتحدى إرادة شيخ قبيلتنا القوي والنافذ آنذاك، سوى ابن أخيه، والدي.
كان والدي، الذي يقيم في قرية جدته البعيدة، والتي تبعُد عن مدينة التربة بحوالي 12 كيلومتراً، يأخذ شقيقته معه، وينطلقُ بها في طريقٍ جبليّ فرعيّ أشد وعورة من الطريق الرئيسي الوعِر أصلاً، ينطلق والدي في رحلته الشاقة تلك ماشياً تارة، ومتسلقاً تارة في تلك الطريق التي لا تستطيع حتى الحيوانات المرور فيها، ليحتال على عمه، ويدخل إلى مدينة التربة من منفذٍ آخر غير المنفذ الوحيد الذي يقف على رأسه الشيخ، ليذهب والدي بشقيقته إلى مدرستها لإجراء امتحاناتها واجتياز سنتها الدراسية.
وفي رحلته للدراسة، أخذ شقيقته معه، وعمل على علاجها، بمساعدةٍ من شقيقه الأكبر، عمي المرحوم عبد الرحمن أحمد، والذي كان السند الوحيد، بعد الله، لوالدي وشقيقاته الأخريات،
شفيت عمتي، واستكملت دراستها الجامعية، وعملت في وزارة التربية حيث تولت العديد من المناصب والمسؤوليات، وردت بعضاً من الدين لوالدي أثناء مرضهِ الطويل، والذي استمر زهاء ربع قرن,
لبُعد المسافة بيننا، ولأسباب أخرى، لم أرِ والدي طوال حياتي إلا مرةً واحدة، كان بحال مزرية إثر تعرضه لحادث مروري، ولم أحتمل المنظر، فتصرفت متأثراً بالصدمة وبطفولية؛ وانصرفت حتى دون أن يتعرف عليّ.
توفي والدي، عام 2005، وهو يعتقد – كما قيل – أنني قد متُّ طفلاً، ودُفن سريعاً دون علمي، ودون أن تتاح لي فُرصة الصلاة عليه وتوديعه، ولم أتمكن سوى من قراءة الفاتحة على قبره.
اليوم أنا وريثهُ الوحيد، أبٌ لثلاثةِ أطفال، بينهم ولد، قررتُ أن أسميه "شوقي" تيمناً باسم جدِّه، كنوعٍ من الاعتذار والوفاء لهذا الرجل العظيم، الذي رحل عن دنيانا، دون أن تتاح لي الفرصة لتقديم أيّ شيء له، عرفاناً بفضلهِ عليّ,,