11 فبراير: ثورة بلا مشروع

السبت 12 فبراير 2022 - الساعة 07:08 مساءً

 

الثورات الشعبية ليست بالحدث السار، في ذاتها، بل بالأحلام والتطلعات والمشاريع الوطنية التي تنجح في إنجازها.. وبتحقق هذه الغايات الرفيعة، وليس بالأهازيج الرعاعية والمغالطات "الدوغماطيقية" الرنانة، التي يحلو لدوغمائيي اليسار القومي والماركسي ترديدها، يصبح للثورة كأداة هدم للبنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية العتيقة في المجتمع؛ سمتها الفخور ووقعها الوقور في ضمير الشعوب وتاريخ الأمم.

 

قد كان لبعضنا شرف التصدر وإشعال الشرارات الأولى لثورة 11 فبراير 2011م، وكان لكثيرين حق التمني، والتبشير بهذه الثورة، والتنبؤ بها والدعوة إليها، بين الخاصة أو العامة، في مناسبات سبقت وقوع هذه الثورة بأشهر وسنوات، لكن أحداً من هؤلاء القلة والكثرة، لم يسأل نفسه بوضوح، ما معنى هذه الثورة، وما المطلوب منها، وكيف ستحدث ولماذا.. وماذا تريد ومن سيمثلها؟!

 

كنا معارضين لنظام صالح العائلي بدعائمه الطائفية، لكنا مختلفين في الدوافع والغايات، من لهم خصومة شخصية مع صالح ونظامه، من خاصموه لفساده وحاشيته، من أبغضوه لعنصريته، ومن أبغضوه لعنصريتهم، ومنتخب هؤلاء فرقاء اتفقوا على رفض مشروعه لتوريث نجله، ليس كرها في التوريث، بل رغبةً كل فريق بأن يكون الوريث... إلخ ذلك من الدوافع والغايات، ولكن لو سألنا أنفسنا ما هي الدوافع والغايات التي قامت عليها ثورة 11 فبراير؟!

 

قطعاً لن نتفق على إجابة، وهذا منطقي، فالدوافع والغايات تتعدد وقد تختلف بتعداد الناس، واختلاف الأزمنة، وقد تتناقض دوافع المرء وغاياته تجاه قضية واحدة لمرات عديدة بمرور السنوات أو حتى الساعات، لكن حين يتعلق الأمر بقيادة الجموع، فإن اختلاف الغايات مرفوض، وإن قبلنا باختلاف الدوافع والنوازع.

 

عامل مركزي لحسم هذه المسألة، يتحقق بوجود النخبة الوطنية الواعية والمستنيرة، التي تستشرف الغايات التوفيقية الكبرى لتسوية اختلاف الغايات، اتكاءاً على تمثيل هذه النخبة لمختلف ألوان الطيف الجماهيري، ولوعيها الكافي والناقد بخصائصه وسماته ورغباته ومساراته وغاياته، الذي يؤهلها لترقية غرائز العوام ومد جسور الاتصال الإنساني والحضاري بما يخلف التفاهم والتفهم لهذا التنوع، ويمكنها من صياغة مفردات المشروع الجامع وهندسة محدداته وخططه، وصولاً إلى الغايات التي وعدت بها واستشرفتها بوعيها الوطني التراكمي، ووجدانها الصادق المستنير.

 

مثل هذا التنظير الحالم والطوباوي لن يتحقق بنخبة بلد هذه أطيافها: "زعماء القبيلة السياسية، جنرالات الإقطاع العسـكري، كهنة الهاشمية السياسية، أمراء المليشيات، رجال الدين، زعماء العصبيات القروية المسلحة.. الخ" هؤلاء هم النخبة السياسية في بلادنا، شئنا أم أبينا، ولا أكثر من ذلك سوى نشارة هشة من مخلفات النشطاء الإعلاميين والسياسيين الذين يعملون كحشوة تصميغ لأعطاء صورة مزيفة بوجود طبقة سياسية، ونخبة عصرية تمثل هذه البلاد وتطلعات شعبها.

 

ودرءاً لمفسدة الاعتقاد بأن شعار الدولة المدنية الحديثة، الذي رفع في ساحات الثورة باليمن، قد جسد الغاية النهائية من ثورة 11 فبراير 2011م، فإنني واستناداً لما مهدت به سلفاً، اصلُ لإبطال هذا الاعتقاد المضلل، بحقيقة أن هذه الغاية قطعاً لا تتحقق بإسقاط نظام سياسي، أو استبداله، فكيف إذا كان الأمر بإسقاط عائلة واحدة شكلت جزءاً من هذا النظام السياسي..

 

فيما أُعيد شرعنة باقي العائلات والشلل والعصبيات التي تشكل بنية هذا النظام وما تجتره من عصبيات قبلية وعشائرية ومليشاوية وعسكرية ودينية مثلت روافعه الصلبة وجذوره العميقة، فقد قطعنا بعض الشوك، وعُدنا لسقاية شجرة العوسج وتعهدها بالرعاية والدعم والتجذير لتنبت لنا شوكاً أقوى وأصلب..!

 

إن الاستعراضات البهلوانية الخادعة التي يستخدمها البعض في الكرنفال الاحتفائي بذكرى ثورة فبراير، قد استفزتني وغيري من شباب هذه الثورة، بنوازعهم الصادقة، والخالية من أي ضغائن شخصية، وأحقاد أنانية، لأؤكد أن ذلك الميل البريء، والتدفق الطاهر الحالم النقي الذي صاحب الثورة، يختصم كلياً مع هذا الزيف والتهليل المخادع الذي يستند كذباً على ثورة فبراير وتضحياتها وتطلعات شبابها وأحلامهم النبيلة.

 

فعلاً، اقتضت الضرورة نشوب الثورة، لكن ليس ضد نظام صالح، وحكمه الممتد لثلث قرن، فقط، بل ضد النظم الهدامة التي حكمت الوعي والأرض والشعب لأكثر من ألف عام، ضد منظومة الطائفية في الشمال، ضد منظومة الشتات في الجنوب، ضد تضاربات الهويات في الشرق، ضد انسحاق الذات في الغرب، ضد اختلاط هذه المنظومة وتكاملها في سحق الروح المتوثبة للأفضل لهذه الأمة الممزقة، لقد نشبت الثورة دون أفضال من أحد، جارفة كسيل هادر يصعب علينا أو على غيرنا تجاهله..

 

وكان شرفاً للمرء أن ينغمس في هذا الطوفان المقهور، لكن كانت مجاديفنا بلا قوارب، وحواسنا العمياء تكتشف التضاريس وتشارك الأفكار، أما غيرنا، فقد لحا بجرافاته الطريق، وحفر الخنادق ولغم المسير وفجر السدود، فجرف التربة الطاهرة، ودمر الثوابت الوطنية، وأغرق الحيوان والإنسان في لجاجة الفوضى والدمار.

 

لقد كانت ثورتنا بلا مشروع، رُبما لأن الوقت كان ضيقاً للغاية، أو ربما لأن وعينا لم يكن بمستوى التحول، وهذا يحمل الجيل الذي سبقنا مسؤولية عظيمة وفشل يرقى إلى الخيانة، والأهم من ذلك، نحن مجرد اشخاص، أفراد ضعفاء، سواء تصدرنا لدعوة الثورة أو عاديناها، كانت لتمر، وإن كان الأصل أن أي ثورة لا تمتلك مشروعاً فإن مآلها إلى الفوضى والحروب الأهلية، فإن الحق والإنصاف والتجرد يقضي بأن نقول، أن ثورة فبراير ليست مسؤولة عما أعقبها من حروب مدمرة، وانهيارات متتالية، ودماء سالت وجرت في ربوع هذه البلاد.

 

لماذا؟! لأن كل بؤر الصراع الدائرة حالياً في أنحاء اليمن، اندلعت شراراتها ونشأت جذواتها قبل ثورة فبراير، في أحقاب صالح وأسلافه، فمليشيات الحوثي نشأت وترعرعت قبيل ثورة فبراير بعقدين، وكانت تكبر بدعم من أقطاب في نظام صالح الذي استخدمها في تصفية صراعات الأجنحة بداخله، وكانت انتفاضة الجنوب السلمية منها والمسلحة في آن تزداد اضطراداً وتكبر يوماً فآخر، وكانت الطائفية داءًا عضالاً دمر هوية اليمن ونسيجه الاجتماعي منذ قرون..

 

وكان الجوع والفقر والتدهور الاقتصادي مضطرداً يزداداً عاماً بعد عاماً، حتى تسارع هذا التدهور ليزداد بين الأشهر، وكان الدولة عاجزة عن دفع العلاوات السنوية، وعاجزة عن الاستثمار وكانت القطيعة السياسية قائمة بين الحزب الحاكم والمعارضة، وكانت الاستحقاقات الانتخابية مؤجلة... الخ من الأزمات والكوارث التي كانت تنهش في البلد وتقوده للانفجار، ولم يكن ذنب ثورة فبراير إلا أنها عجلت بوقوع هذه المواجهة، بدلاً من تأجيل هذا القدر المحتوم إلى سنوات قادمة ما رجوناها إلا بآمال التعافي وليس ارتقاب الهلاك..!

111111111111111111111


جميع الحقوق محفوظة لدى موقع الرصيف برس