أنا .. وقطر

الثلاثاء 01 أغسطس 2017 - الساعة 10:53 مساءً

 

 

قطر، كما أراها، واحدة من دول حزام الصدأ العربي. دولة على شكل شركة، لا يتمتع مواطنوها بأي قدر من الحرية السياسية والفكرية. يذهب النظام في قطر إلى إنزال أبشع العقوبات في قضايا رأي، وقبل فترة قصيرة حُكم على شاعر بالإعدام لأنه قال شيئاً ما في قصيدة.

تعيش الصحافة في قطر حالة مستدامة من الانحناء، فالنظام القطري يمنع ـ حتى الآن ـ تشكيل نقابات بمقدورها الدفاع عن الحقوق الجماعية والفردية بصورة منظمة. قبل أيام عقد في قطر مؤتمر دولي للدفاع عن حرية الصحافة. في نهاية المؤتمر التمس المؤتمرون من النظام القطري السماح بتشكيل نقابة للصحفيين القطريين، أو أي كيان يكون بمقدوره الدفاع عنهم والحديث باسم قضاياهم المشتركة. لكن النظام لم يبد أي تعليق. وبدلاً عن ذلك راح، كعادته، يطلب من كل أنظمة الدنيا احترام حرية الصحافة والإعلام، كما في خطاب الأمير تميم..

للنظام القطري تعريفه الخاص للأخلاق، ولا يمكنك أن تجاريه في تعريفه حتى النهاية. عند نقطة ما ستعود أدراجك. فهو يدعم الجماعات الديموقراطية ضد الأنظمة السياسية التي لا يحبها، ويدعم الأنظمة الطغيانية التي يحبها ضد القوى الديموقراطية والمدنية، ويدعم الجماعات الراديكالية ضد الجماعات الديموقراطية التي لا يحبها، ويعزز من وضع الأنظمة الصديقة ضد القوى الاجتماعية الاحتجاجية، كما فعل مؤخراً عبر دفع الطيران القطري لكسر الإضراب الذي قام به موظفو الطيران في إنغلترا، الموظفون الذين كانوا يطالبون بعلاوات مالية صغيرة..

لا تمثل قطر نموذجاً لأي شيء، ولا يمكنها أن تعلمك أي درس حضاري، سوى هذا:

إذا كان لديك الكثير من الغاز قم ببيعه، وستكسب مالاً.

غير هذا الدرس فإن قطر لن تلهمك شيئاً. فهي تقدم تعليماً مدرسياً وهابياً، باستخدام الوسائل ما بعد الحديثة. وتدعم حق أن يشكل الإخوان المسلمون أحزاباً في كل مكان في العالم وتحظر، مدعومة بأسوأ أنظمة العقوبات، تشكيل حزب إخواني قطري، أو حتى جماعة إخوانية لمواطنين قطريين.

سيطرت قطر، عبر أموالها الواسعة، على شركات وموانئ عابرة للحدود، حتى إنها تملك نادي سان جيرمان بنسبة ١٠٠٪، لكنها تذرف الدموع على ميناء المعلا الذي ذهب إلى الإمارات. تخوض صراعاً مرّاً مع الإمارات أساسه اقتصادي، فالدولتان تتسابقان عالمياً على السيطرة على الأجواء والموانئ والشركات. وبسبب من تداخل المجالين الحيويين للدولتين دخلت الدولتان في سلسلة من الصراع، وفي الطريق استأجرت الدولتان دولاً وحكومات وجماعات. تقول الإمارات إن قطر تدعم الإرهاب، وتقول قطر إن الإمارات تقمع الحقوق. في نهاية المطاف تدعم الدولتان، بدرجة تزيد أو تقل، الجماعات الراديكالية، وتهدران حقوق الإنسان على نحو مروّع.

السعودية والإمارات دولتان فادحتا الخطورة، وهما تتبعان سياسة تدميرية على كل المستويات، وما من أمل في استقرار الشرق الأوسط في المدى المنظور ما لم تتغير السياسة السعودية على نحو جذري. لكن انتقال الصراع الإيراني السعودي، ولكل دولة مستَأجروها، إلى أفريقيا، كما يحدث في نيجيريا وغيرها، يعني أن منطقة اللاستقرار ستتوسع أكثر.

تعرف قطر هذا الأمر منذ ربع قرن، لكنها اكتشفته فقط عندما قامت السلطات السعودية بطرد الإبل القطرية وترحيلها. لقد تستر إعلام قطر على "المشكلة"السعودية، وخطوط سير الإمبراطوية الإماراتية. لا يتحدث الطرفان عن الأسباب الحقيقية للصراع، لكن قطر استخدمت مواضيع أخلاقية في توقيت معين للإضرار بخصمها، خصمها الذي لم تكن قط سمعته على ما يُرام.

المزاج الناصري للأمير السابق، والد تميم، ربما ساهم بدرجة ما في صبغ خطاب الإعلام القطري بصبغة ثورية، لكنها انتقائية. فالرجل كان يضع صورة عبد الناصر في مكتبه، طبقاً للرواية التي قدمها طلال سلمان ـ محرر السفير ـ في العام ٢٠٠٩. لكن معطف عبد الناصر ضيق، لذا لم يخرج منه أحد سواه. وبقيت الانتقائية الأخلاقية سمة سائدة. فبعد أن انسحبت القوات القطرية من "عاصفة الحزم" نشرت الجزيرة تقريراً عن "مظاهرة الشعب اليمني الحاشدة" في صنعاء. كانت حتى يوم واحد، قبل ذلك، مجرد حشود حوثية لا تستحق الالتفات. نحن أمام آلة انتقامية تصنع شعباً أو تخفيه خلال أربع وعشرين ساعة..

أتاحت قطر فرصة فحص الخارطة الجينية في مشافيها، لكن العمال الأسيويين الذين كانوا ينزلقون من على سقالات مشاريع بناء الملاعب كانوا ينزفون حتى الموت، لأنهم لا يملكون تأميناً صحياً. فالدولة التي ترغب في رؤية الجينوم البشري عجزت عن رؤية "حق العامل" في الحصول على تأمين طبي، أسوة بكل العالمين على ظهر الكوكب. احتجت مؤسسات دولية كثيرة، وشوهدت عظام سيقان العمال الأسييويين وهي تنطحن تحت غلالات من الأسمنت والشوب في مشاريع البناء القطرية. إنهم، وفقاً للتقدير القانوني القطري، لا أحد.

ولطالما خلطت قطر بين الأخلاقي والسياسي في الوقت نفسه. ففي أبريل الماضي دعت الأمم المتحدة إلى "استجابة إنسانية" للتعامل مع المسألة الإنسانية المتفاقمة في اليمن. عقد مؤتمر في جنيف، جمعت من خلاله الأمم المتحدة ما يزيد عن مليار دولار، غاب عنه اسم قطر، وحضرت الكويت بحوالي مائة مليون دولار، والسعودية بـ 150 مليون دولار. لكن تقارير عدة قالت إن قطر لم تغب عن المؤتمر، لكنها ساهمت بمليون دولار! تفعل ذلك نكاية في خصومها، تماماً كما تفعل عندما تنشر تقارير صحفية عن انتهاكهم لحقوق الإنسان، وعن الديموقراطيات المهدورة في الشرق الأوسط، وعن الملك المتوحش الذي كان ملك الإنسانية حتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل.

إلخ ..

أزعم أني شخص مستقل، أبني مواقفي بناءً على مقارباتي الخاصة، والفردية، وهي مقاربات قد تكون دقيقة أو هراء، من وقت لآخر. في نهاية المطاف أنا مجرد كاتب يعيش في شمال أوروبا، بشكل دائم، ويمارس مهنته الأفضل "الطب"، غير عابئ بالأحلاف ولا التحالفات، وغير مكترث سوى لما يعتقد هو شخصياً أنها قضايا أخلاقية أو ثقافية. وأنا غير معني بالمنتصر والمهزوم في الصراع الخليجي. إنه لمن السخف أن تشعر بالقلق والحزن لأن ثرياً داهمه قلقٌ ما، وخشي أن لا يحصل في الغد على سمكة اللاكس كاملة.

لكن قطر، رغم ذلك، أكثر ديناميكية، ويمكن التعامل معها أو ترويضها بشكل ما، كما أن إعلامها حضر إلى جانبنا في ثورتنا العربية الأخيرة، وكان ذلك فعل عظيم بصرف النظر عن التفاصيل. ويمكنك قول الشيء الكثير عن قناة الجزيرة، مثلاً، لكنها الرد العربي على بروباغاندا بي بي سي التي هيمنت على المجال العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين. يمكن للمرء ملاحظة المهابة والاحترام اللذين تحظى بهما قناة الجزيرة لدى الإعلام الغربي، بصرف النظر عن كل النقد الأخلاقي والمهني المستحق. لكن ذلك لا يمنح النظام القطري سلطة أخلاقية، ولا يكفي لطمس معالم الحقيقة التي تقول إن النظام القطري يسحق معارضيه في الداخل، ويمنع الحرياات السياسية والفكرية .. تماماً كما تفعل الإمارات. وأنه، مثل الإمارات، يسابق على شركات وموانئ ومدن العالم، ويشتري حكومات وصمتاً ولديه مستأجرون أيضاً.

وشخصياً، كما قلت، لا علاقة لي بقطر، ولا بالنظام القطري، وغير معني بمعارك تميم وربعه لا من قريب ولا من بعيد. فلم تمض سوى 24 ساعة على تعاطفي مع قطر بعد منع اللحوم السعودية من الوصول إليها حتى قالت الحكومة القطرية إن مزرعة واحدة من مزارعها في أستراليا تحوي ثلث مليون خروف. هناك فقط أحسست بأني أهدرت تعاطفي أيما إهدار. لكن الحصار الذي فرض عليها كان لا أخلاقياً، ولا يستند لأي مشروعية، وقد نالت بسببه وعن جدارة كل التعاطف الفردي والجماعي..

أنا أتعاطف مع أرضي، وهي قضيتي. ويعنيني من كل صراع أمران: انعكاساته على أرضي، ومدى إضراره بقضايا الحريات والديموقراطية .. التي هي قضاياي.

.. إلخ

..................................

لمتابعة قناة الرصيف برس على تيلجرام

 https://telegram.me/alraseefpress

111111111111111111111


جميع الحقوق محفوظة لدى موقع الرصيف برس