تحليل: انتعاش الريال في ظل تنشيط البنك المركزي

الثلاثاء 11 نوفمبر 2025 - الساعة 05:14 مساءً
المصدر : الرصيف برس - مركز صنعاء للدراسات

 


استعاد الريال اليمني عافيته بشكل لافت منذ أواخر يوليو، لترتفع قيمته بما يزيد عن ٤٤ بالمئة، بعد أشهر من التدهور الحاد. يأتي هذا الصعود المفاجئ نتيجةً لتحرك البنك المركزي اليمني بعدن على عدة محاور، حيث شملت الإجراءات الرئيسية لجم المضاربة والتلاعب بالعملة، ووضع إطار مؤسسي لتمويل الاستيراد، وإلزام الجميع باستخدام الريال حصراً في المعاملات المحلية. 

 

حظيت هذه الإصلاحات بمساندة سياسية غير مسبوقة من مجلس القيادة الرئاسي والحكومة والسلطات المحلية، ما يمثل نقطة تحول حاسمة في معالجة مكامن الضعف الهيكلية التي طالما زعزعت استقرار العملة.

 

بحلول منتصف يوليو، كان الريال اليمني – بطبعته الجديدة[1] المتداولة في مناطق سيطرة الحكومة – قد هوى إلى مستوى ٢٩٠٠ ريال مقابل الدولار الواحد، مسجلاً أسوأ انهيار له على الإطلاق. في بلد يعتمد بشدة على الاستيراد مثل اليمن، أدى التضخم المتسارع إلى تآكل القوة الشرائية، مما عمّق من انعدام الأمن الغذائي وأطلق شرارة احتجاجات واسعة؛ غير أن تدهور الريال لم يكن وليد قوى السوق وحدها، بل كان أيضاً نتيجة جهود ممنهجة من قبل شبكات الصرافة التي سعت للتربح من فروقات أسعار الصرف. 

 

لقد تكاثرت محلات الصرافة في وقت تكافح فيه البنوك التقليدية للتأقلم مع تداعيات النزاع، وأفلتت الكثير منها من الرقابة مستغلةً غياب الإشراف للانخراط في مضاربات غير مشروعة، وقد وُجهت أصابع الاتهام في مثل هذه الممارسات إلى أطراف فاعلة في الأوساط السياسية والعسكرية والأمنية، بالإضافة إلى كيانات تجارية كبرى. 

 

كان محافظ البنك المركزي بعدن، أحمد غالب المعبقي، قد اتهم الحوثيين صراحةً بالضلوع في المضاربة بالعملة في عدن بهدف تخريب السوق.

 

في ٢٤ يوليو، تحرك البنك المركزي بعدن لوضع حد لهذه العمليات، مطلقاً حملة تفتيش ميدانية لكبح المضاربة والتلاعب بالعملة، وأصدر قرارات بتعليق وسحب تراخيص أكثر من ٥٠ شركة صرافة. بدعم من الحكومة والسلطات المحلية، يبدو أن هذا الإنفاذ للوائح المالية، الذي طال انتظاره، كان له دور حيوي في وقف تدهور الريال.

 

في السابق، كانت محاولات وقف تدهور الريال تصطدم بمحدودية الدعم السياسي، ولم يقتصر الأمر على المتورطين في التربح الداخلي، فقد قوض التدخل الأجنبي مراراً جهود البنك المركزي بعدن لفرض سلطته ودعم العملة؛ إذ ضغطت السعودية على الحكومة، حفاظاً على “خارطة طريق” السلام التي تتبناها، للتراجع عن مساعيها لتنظيم القطاع المالي وعزل الحوثيين اقتصادياً.

 

أدى التخلي عن “الشبكة الموحدة لتحويل الأموال” وغيرها من الإجراءات إلى إضعاف قدرة البنك المركزي على مواجهة الأنشطة المالية المزعزعة للاستقرار، مما زاد من الضغوط على قيمة الريال، ورغم التعهدات العلنية بتعزيز احتياطيات البنك من النقد الأجنبي، ظل الدعم المالي السعودي بطيئاً ومتقطعاً. 

 

تشير التقديرات إلى أن احتياطيات البنك لا تتجاوز ٢٢٥ مليون دولار، وهي ندرة غذّت المضاربات في السوق الموازية.

 

بينما كان البنك المركزي عاجزاً عن بسط سلطته على النظام المالي ومكبّلاً بتردد الرياض عن دعمه، جاءه طوق نجاة غير متوقع من الولايات المتحدة؛ فقرار وزارة الخزانة الأمريكية في يناير بإعادة تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية أجنبية، وإن حمل في طياته مخاطر على اليمن، إذ يهدد نطاقه الواسع بفرض مزيد من العزلة الاقتصادية وتقويض موثوقية استيراد وإيصال الغذاء والمساعدات، لكنه في المقابل، دفع بالمؤسسات المالية اليمنية إلى الانضواء تحت سلطة عدن، فالخوف من العقوبات دفعت البنوك في صنعاء الخاضعة لسيطرة الحوثيين إلى نقل عملياتها الرئيسية إلى مناطق سيطرة الحكومة، مما عزز من قدرة البنك المركزي بعدن على مراقبة العمليات وتدفقات التحويلات، وهي خطوة بالغة الأهمية لدعم الريال.

 

من ناحيتها، عززت الحكومة تنسيق جهودها؛ فبعد أشهر من المبادرات المتنافسة وغير المنسقة، اتفقت فصائلها المنقسمة على نهج موحد لمعالجة أزمة العملة. تمخض عن ذلك تأسيس اللجنة الوطنية لتنظيم وتمويل الواردات ووضع آلية تجارية جديدة. 

 

بموجب الآلية الجديدة، يجب الآن تقديم طلبات استيراد أي من السلع الأساسية الخمس والعشرين – ومن ضمنها الغذاء والدواء والمشتقات النفطية – عبر البنوك وشركات الصرافة اليمنية لعرضها على اللجنة للمراجعة، وسيتم منع أي شحنات غير معتمدة من الدخول عبر المنافذ الجمركية، مما يشكل رادعاً قوياً ضد التمويل غير المنظم.

 

كان هذا إصلاحاً ضرورياً تأخر كثيراً، فمنذ انقسام البنك المركزي، عجز فرع البنك المركزي بعدن عن إرساء آلية فعالة لتمويل الواردات. 

 

في حين أنشأ الحوثيون لجنة مدفوعات خاصة بهم أواخر العام ٢٠١٧، حاول بنك عدن دعم الريال الجديد عبر مزادات لبيع النقد الأجنبي المخصص لتمويل الاستيراد، غير أن هذه المزادات، التي انطلقت أواخر ٢٠٢١، باءت بالفشل إلى حد كبير، إذ انخفضت نسبة التغطية فيها إلى أقل من ٥٠٪، بسبب منع الحوثيين المشاركة فيها، وضعف إقبال البنوك التجارية. 

 

يشي التأخر الطويل في تشكيل لجنة لتمويل الاستيراد بأن الحكومة لم تدرك آنذاك الأهمية المحورية لتنظيم الواردات في السيطرة على الطلب على العملة الصعبة.

 

رغم كل ذلك، ما تزال هناك تحديات تعترض سبيل إنعاش الريال؛ فالبنية التحتية المالية اللازمة للتحكم بتدفقات النقد الأجنبي لا تزال هشة، والشفافية لا تزال مبعث قلق، كما أن شبكة المصالح والملكيات المتداخلة والمعقدة بين السلطات الحكومية والبيوت التجارية والبنوك وشركات الصرافة، تجعل الخط الفاصل بين التجارة المشروعة والمضاربة والتربح ضبابياً. 

 

العديد من كبار التجار يمتلكون بنوكاً وشركات صرافة خاصة بهم، ويوظفون هذه القنوات إما لتمويل وارداتهم أو لجني الأرباح من المضاربة. 

 

لقد أدت حالة التشتت المؤسسي والتنظيمي إلى انتقال أجزاء من الدورة النقدية إلى شركات صرافة تعمل خارج مظلة البنك المركزي، الذي كافح بدوره لسحب السيولة الفائضة من السوق عبر مزادات العملة أو أدوات الدين.

 

لمواجهة ذلك، تحركت الحكومة لتعزيز مكانة الريال في مواجهة العملات الأخرى المتداولة. مطلع أغسطس، أصدر مجلس الوزراء قراراً بحظر استخدام العملات الأجنبية في المعاملات التجارية والعقود المالية، فقد كانت العديد من الجهات العامة والخاصة – مثل الخطوط الجوية اليمنية والمؤسسة العامة للاتصالات – تتقاضى مدفوعاتها ورسومها بالعملات الأجنبية، مما كان يفرض ضغوطاً على قيمة الريال، لكن تأثير هذا القرار سيظل محدوداً، لأنه لا يشمل المدفوعات التي تتم خارج الموازنة العامة للدولة، وهو ما يتعارض مع القانون المالي النافذ الذي ينص على أن الريال هو وحدة التبادل الأساسية لجميع نفقات الحكومة. 

 

هناك آلاف المسؤولين الكبار، بمن فيهم أعضاء مجلس القيادة الرئاسي والوزراء وأفراد في مختلف القوات العسكرية، يتقاضون رواتبهم أو مكافآتهم بالدولار الأمريكي أو الريال السعودي خارج إطار الميزانية الرسمية، وكثير منهم قلما يقضون وقتاً في اليمن. هذا الوضع يكرّس نظاماً نقدياً مزدوجاً لا يحرم الحكومة من النقد الأجنبي اللازم لتعزيز احتياطاتها وتحقيق الاستقرار فحسب، بل يهدد أيضاً السيادة النقدية للبنك المركزي.

 

قد يمثل التحسن الأخير في قيمة الريال بداية تحول نحو استراتيجية اقتصاد كلي أكثر تماسكاً من جانب الحكومة، ولكن ما لم تقترن هذه الخطوة بإصلاحات اقتصادية أشمل، سيكون هذا التعافي مؤقتاً؛ فالاستقرار طويل الأمد يتطلب مساراً مزدوجاً: تحويل التدخلات الأخيرة إلى سياسات مستدامة؛ والشروع في تغييرات هيكلية أعمق. قوة البنك المركزي بعدن هي انعكاس لقوة الدعم الذي يتلقاه، وسيتطلب الإصلاح إرادة سياسية وقدرة على الإنفاذ من جميع مستويات الحكومة وفصائلها، مع احترام الاستقلالية النقدية للبنك المركزي.

 

يتطلب الأمر أيضاً إيجاد مصدر دخل موثوق للحكومة، التي أصبحت – بسبب حصار الحوثيين لصادرات النفط – تعتمد بشكل خطير على الدعم السعودي المتقطع؛ وبينما تسارع الرياض وأبو ظبي لدفع رواتب الجماعات المسلحة التي تدعمها، تظل الحكومة في أمس الحاجة لمصدر مستدام للعملة الصعبة لتمويل التجارة وتوفير الخدمات الأساسية. 

 

مع ذلك، توجد فرص عديدة لمعالجة مكامن الخلل في النظام المالي لتنمية الإيرادات وترشيد النفقات، وعلى الحكومة أن تكافح الفساد في مؤسساتها السيادية، كمصلحتي الجمارك والضرائب، وأن تحرر سعر صرف الدولار الجمركي الذي يصب حالياً في مصلحة المستوردين. كما أن تطبيق نظام تعرفة متعدد الشرائح للكهرباء من شأنه أن يقلل العجز المالي ويساعد على استمرار الخدمة.

 

لكي تنجح هذه الجهود، يجب على مكونات الحكومة المختلفة أن تعمل بشكل منسجم، والأهم من ذلك، عليها أن تكون استباقية في تبني الإصلاح المالي، وألا تنتظر حتى تندلع اضطرابات أهلية أو أن يلوح شبح الانهيار الاقتصادي في الأفق، فالسير على حافة الهاوية أمر محفوف بالمخاطر.

111111111111111111111


جميع الحقوق محفوظة لدى موقع الرصيف برس