من هو علي بن أبي طالب؟!
الثلاثاء 19 يوليو 2022 - الساعة 09:05 مساءً
د. صادق القاضي
مقالات للكاتب
لا أسهل من هذا السؤال الذي تتوفر الإجابات عليه في الكتب المدرسية والكتب والمراجع التراثية والمعاصرة، على امتداد العالم العربي والإسلامي. كل العرب والمسلمين الراشدين، جميعهم تقريباً، يعرفون الكثير عن هذا الرجل، بعضهم يعرف عنه أكثر مما كان هو شخصياً يعرف نفسه.!
لكن في المحصلة، نجد أنفسنا أمام عدد كبير من الإجابات، المتشابهة والمتغايرة، ربما بعدد الأشخاص والكتب والطوائف ذات العلاقة، ومن الطبيعي بالنسبة لشخصية جدلية، حاضرة بقوة في الوعي والتراث الديني والسياسي، مثل شخصية "علي بن أبي طالب". أن تتشكل حولها الكثير من التصورات، والتجليات المتقاربة والمتباينة، كالتالي:
أولاً: شخصية فعلية:
وهي الشخصية التي كان عليها هذا الرجل بالفعل. لا نعرف الكثير عن هذه الشخصية، وحتى الذين تعاملوا معها مباشرة، كان لكل منهم تصور مختلف عنها، فرغم أنها أقرب للواقع، فهي نسبية متعددة، ومن تجلياتها:
أ- شخصية ذاتية:
هي تصور الرجل عن نفسه، كيف كان الإمام علي يرى نفسه، ويقدرها؟ وهل كان تقديره لها صحيحاً؟ وعموماً تقدير الشخص لنفسه لا يعبر، غالباً، عن حقيقته، فتصورات الأشخاص عن أنفسهم نسبية تتراوح بين قطبي النرجسية والمازوشية.
ب- شخصيات غيرية:
هي صور الشخص في أذهان الآخرين، أسرته، أصدقائه، خصومه.. كان للإمام علي صور مختلفة لدى كل من هؤلاء.. وكلها لا تعبر عن حقيقته بل عن نوعية رؤية كل منهم له.
ثانياً: شخصية كتابية:
هي الشخصية التي كتبها المدونون عن الشخص، ومن البديهي أن ما يُكتب عن الشخص، يعبر عن الكاتب أكثر مما يعبر عن الشخص المكتوب عنه، فهي شخصية نسبية، وهي أيضاً متعددة بتعدد الكتاب ووجهات نظرهم. منها:
أ- شخصية تاريخية:
تقدمها المعلومات المعقولة الواردة في كتب التاريخ، فبغض النظر عن اختلافاتها، ففي الحد الأدنى لا شك أن هذا الرجل عاش فعلاً في القرن السابع للميلاد، وكان من صحابة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ووصل إلى الخلافة، وخاض حروباً أهلية مع معارضيه، اختلف الناس حوله وحول أحقيته بالسلطة، ومات مقتولاً على يد بعض خصومه.
ب- شخصية واقعية:
الواقعية لا تتعلق بالضرورة بما حدث فعلاً، بل بما يمكن أنه حدث، ومن الممكن، في ظل المعلومات المتضاربة عنه أنه كان:
- شخصاً تقياً، أقرب للدين من السياسة، وأقرب للمهادنة وتقديم التنازلات.
- مقاتلاً جسوراً لكنه غِر يسهل خداعه في السياسة.
- ضحية تعيسة الحظ في أحداث خارجة عن إرادته.
معمعة الوجوه والمرايا.!
على مستوى آخر. تشكل للرجل وعنه، عدد كبير من الوجوه والشخصيات الذهنية، المتشابهة والمتضاربة، والمتفاوتة الجنوح في الخيال والميثولوجيا، كما لو أنه هو "الروح" التي ينسب إليه أنه قال إنها: "ملك من الملائكة، له سبعون ألف وجه، لكل وجه سبعون ألف لسان". هذا التشبيه لي، وهو إضافة لا تضر، إلى كمٍّ هائل من التجليات الخرافية والأسطورية لشخصية "علي بن أبي طالب" في التراث الإسلامي، وإن كانت بعض تلك التجليات سلبية، من صناعة خصومه، منها:
- شخصية الشيطان:
وهي شخصية شريرة ليست مشهورة على نطاق واسع، كوّنها خصومه ومعارضوه عنه، وعلى أساسها كان بعضهم يلعنه في المنابر، فضلاً عن الخوارج الذين يبدو في الأخبار والأقوال والأشعار المتفرقة عنهم، أنه كان بالنسبة لهم شخصاً كافراً، ارتكب الكبائر والموبقات بجعل كتاب الله مادة للتحكيم، وإن اختلفوا هل كفره شرك أم لا؟! وبالتالي فإن قتله أكبر قربى لله وخدمة للدين، وبذلك تعظم النصيرية عبد الرحمن بن ملجم، ويعتبره الخوارج أفضل أهل الأرض لأنه خلص روح اللاهوت من ظلمة الجسد وكدره، كما في قول عمران بن حطان في مدح ابن ملجم:
يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا
في المقابل، أضيفت للرجل وأضفيت عليه، كثير من الهالات والأبعاد الأسطورية، من قبل مريديه، وكلها شخصيات ذهنية صناعية، منها:
- شخصية الإنسان الكامل:
تشكلت للرجل، وغيره من كبار الصحابة، في كتب الشيعة والسنة شخصية متجاوزة لا تخرج به عن بشريته، بقدر ما تجعله المثال النموذجي لها، كصورة عملية للإنسان الكامل، في الجوانب الجسدية والعقلية والروحية والأخلاقية.. منزهاً عن العيوب معصوماً عن الخطأ، متفوقاً في كل هذه الجوانب على غيره.
- شخصية السوبرمان:
شخصية شعبية قتالية، تتعلق بالقدرات الجسدية الخارقة، للرجل، وأدواره البطولية من أجل الخير، وتقدمها السير الشعبية، مثل سيرة الإمام علي، والمياسة والمقداد وغيرها.. وفيها يبدو علي بن أبي طالب، "السيف الضارب والأسد الغالب"، والبطل الخارق بالشكل الذي يجعله مثل جلجامش، وهركليس في الأساطير القديمة.
- شخصية الشاعر:
ولأن الموهبة والقدرة الشعرية فضيلة عربية، كان لا بد لأشياع الرجل من منحهما له، وهناك باسمه "ديوان شعر"، يفيض بالحكم والأمثال، وهو مقبول في الحد الأدنى من الجانب الفني، غير أنه غير مقبول إطلاقاً من حيث نسبته للرجل، نعرف أنه لم يكن شاعراً، كما في المصادر الأكثر أهمية، وعموماً معظم قصائده نجدها منسوبة لآخرين كالإمام الشافعي.
- شخصية الخطيب:
للرجل في كتاب "نهج البلاغة" المنسوب إليه، شخصية غاية في الخطابة والفصاحة والبلاغة والحكمة، وحسن التفصيل والبيان، بما يجعله بمنزلة أرسطو وابن المقفع وأكثم بن صيفي. معاً، وإن كان يمكن بسهولة ملاحظة أن هذه الشخصية البيانية مصنوعة، ففي الكتاب الكثير من عبارات وحكم أرسطو وابن المقفع بالفعل، وحكم وأمثال لمتأخرين، وأفكار ظهرت لاحقاً بعد قرن أو قرنين من حياة الرجل، وهو شيء لاحظه الأولون والآخرون، فأجمع المحققون على أن الكتاب منحول عليه، واختلفوا "هل هو من عمل الشريف المرتضى المتوفى سنة 436 للهجرة، أو هو من عمل أخيه الشريف الرضي المتوفى سنة 406 للهجرة"؟!
- شخصية العالم:
العلم من أنبل الفضائل الإنسانية، ولا شك أن علي بن أبي طالب الذي عاش طويلاً جوار النبي كان على معرفة معقولة بقيم وشرائع الإسلام، لكن بعضهم يجعله يتجاوز هذه النقطة الممكنة، إلى درجة كونية، كما لو أن العلم ظاهرة ثابتة جاهزة مسبقاً، كمدينة مخفية عن الأعين، وإن علي باب مدينة العلم هذه.
- شخصية الساحر "العرّاف":
من أهم وظائف العرّاف الساحر معرفة الغيب، والتنبؤ بالأحداث، ومع أن هذه الوظيفة باتت سيئة السمعة، وكانت كذلك في المجتمعات المتحضرة والشرائح المتنورة، إلا أن غموضها يخلب ألباب الطبقات الشعبية، فكان لا بد للإمام علي أن يتلبس هذه الشخصية من خلال "علم الجفر" الذي كان وما زال يحظى في المجتمعات الإسلامية، شيعية وسنية، بقيمة متفاوتة الأهمية، باعتباره علماً للاطلاع على ما كتبه الله منذ الأزل في اللوح المحفوظ.
يقوم هذا العلم الزائف على التلاعب بالحروف، يرى بعضهم أن علي بن طالب هو من ابتكر نظام وقواعد استخدام "الحروف الثمانية والعشرين" بطريقة تؤدي إلى الاطلاع على "لوح القضاء والقدر"، وبالتالي هو من أسس "علم الجفر"، "وهو: عبارة عن العلم الإجمالي بلوح القضاء والقدر، المحتوي على كل ما كان وما يكون، كلياً وجزئياً". وهو علم توارثه أهل البيت، وألف بعضهم فيه، كالإمام: جعفر الصادق الذي ألف كتاب "الجامعة".
- شخصية الكاهن.
بموجب الحديث المنسوب للرسول، عن قوله لعلي: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي من بعدي»، تشكلت للرجل شخصية كهنوتية عليا على قاب قوسين من النبوة، وصلاحيات دينية مطلقة وأبدية، فهارون بالنسبة لموسى، أخوه وشريكه ونائبه، والوريث الشرعي لوظيفته في القيادة الدينية لليهود، وكذلك نسله الذين احتكروا الكهانة في التاريخ اليهودي. وبالتالي فعلي بن أبي طالب نائب للنبي والمرشد الديني العام للمسلمين من بعده، وكذلك سلالته المقدسة، مع زيادة أنهم بجانب السلطة الدينية قادة للمسلمين في الأمور الدنيوية.
- شخصية الإمام:
يتفق السنة والشيعة، على مسألة "الأئمة من قريش"، وعلى خصوصية سلالة بني هاشم، والفرق بينهم في الكم فقط، يسميها أهل السنة الخلافة، كسلطة دنيوية، بينما يسميها الشيعة "الإمامة" كسلطة دينية ودنيوية، وهي لدى الشيعة حق إلهي لعلي بن أبي طالب وذريته، وإن اختلفوا في التفاصيل.
- شخصية الولي:
الولاية مرادفة للإمامة، وإن كانت دلالتها تتركز في القيمة والأبعاد الكهنوتية للإمام، ويوغل بعضهم في تهويل قيمتها اللاهوتية، ويقارنونها بالنبوة، وفي حين يرى بعضهم أن الإمام أقل منزلة من النبي، يفضل بعضهم الإمامة والولاية على النبوة، وذهب بعضهم أن علي بن أبي طالب، أفضل من الرسل جميعاً إلا محمداً (ص) فإنه يساويه في الفضل، وكذا الأئمة من ولده. وقالت فرقة منهم: هو أفضل من جميع الرسل إلا أولي العزم، فإنه يساويهم في الفضل، وكذا الأئمة من ولده. وتوقف بعضهم في الأفضلية على أولي العزم.
شخصية النبي:
يرى بعضهم في اصطفاء الله لمحمد نبياً، مجرد غلطة فنية للملاك جبريل، الذي أرسله الله بالتكليف إلى علي بن أبي طالب، لكن لأن محمداً كان "أشبه بعلي من الغراب بالغراب، والذباب بالذباب"، أخطأ جبريل ومنح الرسالة لمحمد، لذلك يكرهون "صاحب الريش"، ويعنون به جبريل، عليه السلام، فهو بنظرهم النبي الحقيقي سيئ الحظ. لا يؤمن بعضهم بهذه الحكاية، لكنهم بالمثل يرون في علي نبياً كغيره من الأنبياء، ومثله الأئمة الأطهار من آل بيته.
- شخصية الرسول:
وهي متداخلة بشخصية النبي، وإن تكرست للتعبير عن موقف الرجل من إيصال كلمة الله للعالم، وحسب بعضهم: "الأئمة أنبياء محدثون ورسل الله وحججه على خلقه لا يزال منهم رسولان؛ واحد ناطق والآخر صامت، فالناطق محمد (ص) والصامت علي بن أبي طالب". وهم يزعمون أن الأئمة ينسخون الشرائع ويهبط عليهم الملائكة وتظهر عليهم الأعلام والمعجزات ويوحى إليهم.
- شخصية المخلّص:
نتيجة لعوامل معروفة، ظهرت في التاريخ الإسلامي، واليهودي وغيرهما، شخصيات تمثل المخلص الذي يظهر في آخر الزمان فينصر الحق وأهله، وهي ظاهرة موجودة عند أهل السنة، وأكثر منهم الشيعة الذين منحوا هذه الصفة لأشخاص كثيرين، من آل البيت، منهم علي بن أبي طالب. قال بعض الإمامية بعودته وأنه هو المهدي المنتظر، الذي "سيعود في آخر الزمان فيملأ الأرض عدلًا بعد أن ملئت جوراً".
- شخصية المسيح:
نجدها في بعض الروايات التي تجعل من الإمام علي بمثابة المسيح، فهو كلمة الله وأمانته، وفسروا به الآية": {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال..} فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان: وبالذات أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، فخانوا الأمانة، حسب رأيهم. ولا يختلفون في أن الشمس ردت على علي بن أبي طالب مرتين، كما حدث يوم صلب المسيح.
- شخصية إله:
للإمام علي في بعض التصورات قدرات فيزيقية مثل تلك التي كانت للآلهة اليونانية، فهم يتدخلون من الغيب في التحكم بظواهر الطبيعة، بقدرات خارقة، تجعل في إمكانهم تغيير ظواهر الطبيعية، والتجسد من خلالها، ومنهم من يرى أن الإمام علي يتجسد في السحاب، فيرفعون التحية للسحاب، وفيهم قال بعض الشعراء:
بَرِئت من الْخَوَارِج لست مِنْهُم ... من الغزال مِنْهُم وَابْن بَاب
وَمن قوم إذا ذكرُوا عليا ... يردون السَّلَام على السَّحَاب
- شخصية الإله:
ينسبون صناعة هذه الشخصية الإلهية عن علي إلى الفرقة السبئية، المنسوبة إلى الشخصية الأسطورية "عبد الله بن سبأ"، لكن في العموم، كان، وربما لا يزال هناك من ينحو هذا النحو، بالكناية أو بالتصريح، وفي بعض كتب الملل والنحل أن قوماً من الغالية. قالوا: إن "الله سبحانه قد أقدر علي بن أبي طالب على فعل الأجسام وفوض إليه الأمور والتدبيرات".
..
لا حاجة لتفنيد كل هذه الترهات أو لتأكيد أن كل هذه الشخصيات، شخصيات صناعية زائفة، لا علاقة لها بالحقيقة أو الواقع التاريخي للرجل، الذي لا شيء مؤكد عنه سوى القليل، في حين أن هذا الثراء البالغ في عدد الشخصيات المرتبطة به، لا يكشف الكثير عنه بل عن الواقع التاريخي للمسلمين، ونوعية عقلياتهم وتصوراتهم وطرق رؤيتهم وتعاطيهم مع الأمور والخلافات الصراعات السياسية والدينية، وللأسف ما تزال هذه العقليات والرؤى والتصورات فاعلة ومؤثرة في صناعة الأحداث والسياسات المعاصرة. في الشرق الأوسط على الأقل.!
▪︎ نقلا عن 2 ديسمبر