ثقافة الخصومة السياسية من منظور تاريخي
الجمعه 10 مارس 2023 - الساعة 07:01 مساءً
ياسين سعيد نعمان
مقالات للكاتب
في تاريخ الفكر العربي والاسلامي حوادث وأحداث تجعلنا نفكر ملياً في مراجعة ثقافتنا السياسية في الخصومة ، وعلاقة ذلك بالقدرة على إنتاج المشتركات لمواجهة التحديات الكبرى ، والوصول إلى أهداف استراتيجية في لحظة تاريخية حاكمة .
شهدت المرحلة المبكرة في الاسلام التغيرات الحاسمة لكثير من القادة التاريخيين ، والانتقال من ضفة إلى أخرى من ضفاف التاريخ . كان انتقال هؤلاء القادة بمثابة الهزة التي خلخلت البنى السياسية والاجتماعية والفكرية لمجتمعاتها ، وشكلت هذه العملية التاريخية نقطة تحول في بناء مرجعية فكرية تقوم على الموقف الشخصي الذي يتحدد بمعزل عما " وجدنا عليه آباءنا".
خالد ابن الوليد قاد قريش المشركة في معركة "أُحد" ، وهزم المسلمين في تلك المعركة التي قتل فيها العشرات من صحابة رسول الله وأوائل من لبى دعوته إلى الاسلام .. وعندما التحق بركب الاسلام لم يعايره أحد على ماضيه ، بل أطلقوا عليه سيف الله المسلول . وعكرمة بن أبي جهل الذي أقسم يوم الفتح أنه لن يسكن أرضاً يطأها قاتل ابيه ( ابو الحكم الذي اطلق عليه الرسول لقب ابو جهل) ففر إلى تهامة من أرض اليمن ، ثم أسلم وحسن إسلامه ، وقاتل لنصرة الدين الذي حاربه في البداية ، واستشهد في معركة اليرموك .. عكرمة لم يعايره أحد من معاصريه نكاية بأبيه أو بعداوته للاسلام قبل أن يلتحق بالاسلام ، وكثيرون غيرهم ممن رأوا الدين الجديد خطراً على وجودهم الاجتماعي ، سواء من ذرية قصي بن كلاب والبيتين الرئيسيين فيه : هاشم وعبد شمس ، أو غيرهما من قبائل العرب التي تنتمي إلى كنانة وغيرها .
فالعباس ابن عبد المطلب عم الرسول لم يلتحق بالاسلام الا في وقت متأخر ، بينما أصر أبو طالب أن يموت على شِرْك ، وتأسست الدولة العباسية نسبة إلى العباس بن عبد المطلب الذي أهدر الرسول رِبَاه يوم الفتح في خطبة الوداع ، وقاد علي بن أبي طالب منهجاً تشيع له قسم من المسلمين ، ولم يعايره أحد بأن والده مات على شرك في حين كان الاسلام في أمس الحاجة إلى اعتناقه في تلك المرحلة المبكرة .
كان البيت الأموي أكثر تمنعاً في الالتحاق بالدين الجديد لاسباب عصبية ؛ ثم خرج من داخل هذه العصبية المقاومة للدين الجديد من رأى فيه طريقاً إلى الجاه والحكم ، كان ذلك فرع ابي سفيان وبني عبد شمس وأمية ، وكانوا بدهائهم هم الذين حولوا الدين إلى دولة .
هند بنت عتبة والتي تنتمي إلى فرع عبد شمس ، في حوارها مع الرسول اثناء فتح مكة كانت نموذجاً لذلك المنهج الذي يمكن أن يطلق عليه "الاستراتيجي" بكل ثقة ، حيث نبهته إلى ما تحتفظ به القبيلة من قيم اجتماعية رشيدة لا تتناقض مع ما يدعو إليه الدين ، واعتبر ذلك الحوار شاهد على أن الفرع الأموي كان يؤسس للحكم بأدوات هي أقرب إلى أيديولوجية الحكم التي افتقر إليها الآخرون . وهند التي فقدت والدها عتبة بن ربيعة أحد سادة قريش وابنه الوليد أحد فرسانها كانت أماً لمعاوية ، الخليفة الأموي المؤسس للدولة الأموية ، والذي كان والده سفيان ابن حرب أحد قادة قريش ممن قاوموا الرسالة وقاد قريش في معركة بدر .
لم ينتقص من معاوية هذا النسب ، كما لم ينتقص من بني هاشم شرك أبي لهب عم الرسول وزوجه حمالة الحطب .
هذه الثقافة هي جذر رئيسي في الفكر العربي والاسلامي الذي شكل مرجعية ذات قيمة تاريخية في تكوين العقلية السياسية التي أديرت بها الدول الاسلامية المتعاقبة ، قبل أن يصيبها الترهل وتمزقها الانقسامات، وهي المرحلة الوسيطة التي أخذت فيها الخلافات والصراعات العرقية والاسرية تنسج شراكاً كثيرة لتلغيم ذلك الجذر الثقافي بمعايير النسب ، والمواقف المسبقة لتعود بالشخص إلى أصول ومواقف عفا عليها الزمن حتى يصنف في خانة الموالين أو الخصوم . ثم جاءت المرحلة الاستعمارية التي استفادت من هذا الانفصام بين ذلك الجذر الثقافي ، الذي ظل ينتج المشتركات بين الناس في مواجهة التحديات الكبرى ، والتخبط السياسي الذي اقترن بحالة التمزق والانهيارات .
لا يستقيم الانسان على حال واحدة ، المهم هو أين يقف في اللحظة الحاسمة من الصراع الذي يقرر مصائر الأوطان . الانسان الذي يستطيع في اللحظة الحاسمة أن يقف في الجانب الصح من التاريخ هو إنسان قادر على استيعاب متغيرات الحياة ومتطلبات هذا الجانب الصحيح من التاريخ ..
حياة اليمنيين مليئة بمخلفات الصراعات ، التي غالباً ما كان لها تأثير معاكس في أخذ الخيار الصحيح . ومع ذلك فقد تبين أنه حينما تضعهم الحياة أمام تحديات من نوع مختلف تجد أن هناك من يمتلك الارادة على تجاوز تلك المخلفات إلى الفضاءات التي تستقطب الأقوياء لمواجهة التحديات الأكبر والأضخم والأشد خطورة على البلاد والعباد .
نستطيع أن نترك الماضي للتاريخ ، ولا يجب أن نستجديه معاقبة أحد حينما يتعين علينا أن نعد العدة لمواجهة متطلبات واستحقاقات المستقبل .
لو أن كل واحد ، سواء كان فرداً أو جماعة أو حزباً ، نظر إلى ما ارتكبه من أخطاء لتريث كثيراً في مهاجمة غيره ، أو تجرأ من موقعه الملتبس على تقييم غيره .
عامة الناس ، ممن تحملوا الكوارث التي صنعتها النخب ، هم وحدهم القادرون على تمييز الخبيث من الطيب ، وهؤلاء لن يستطيعوا أن يقولوا كلمتهم إلا في ظروف مختلفة وعبر صناديق الاقتراع بعيداً عن ضجيج ونواح النخب .