السودان واليمن حرب إبادة
الثلاثاء 03 أكتوبر 2023 - الساعة 04:01 صباحاً
عبدالباري طاهر
مقالات للكاتب
بغتة يخرج أنصار الله من جيب صغير في ريف صنعاء- قبل استكمال الاستيلاء على صعدة وأريافها- إلى عمران معقل القوة الرئيسية للكتيبة الأولى مدرع- الذراع اليمنى للفريق علي محسن، والتجمع اليمني للإصلاح.
خلال بضعة أيام، اجتاحت مليشيات قليلة غير مدربة عمران، وصنعاء. كان التحالف مع الرئيس صالح المسيطر على أهم وأقوى وحدات الجيش، والحرس الجمهوري، والأمن المركزي، وذو النفوذ الواسع في القبائل- هو سر الانتصار السريع.
قراءة الانتصار الدراماتيكي لـ 21 سبتمبر بدون موقف علي عبد الله صالح الموتور من انقلاب علي محسن، والتجمع اليمني للإصلاح، وانشقاق وزرائه عليه- جهل بالواقع، وإنكار للحقيقة.
صالح الذي لا ينقصه الدهاء والذكاء والمكر كان يوجه الوحدات العسكرية القوية، وزعماء القبائل المؤيدة والممولة، للالتحاق بالأنصار، والخلاص من حلفائه المنقلبين عليه، وكان في نفس الوقت يحفر قبره بيده: «علي وعلى أعدائي».
دول الخليج، وبالأخص العربية السعودية، والإمارات، والأمريكان، لم يكونوا بعيدين عما يجري؛ فقد كانت دول الخليج حريصة على توقي ثورة الربيع العربي في اليمن، وإعادة إنتاج نظام صالح، وإحياء التحالف بين قطبي الحكم: صالح والمؤتمر الشعبي العام، وعلي محسن والإصلاح.
أُقصِي شباب الثورة، والمرأة الدعامتان الأساس لربيع اليمن، وأُخلِيت أهم الساحات في المدن، وبالأخص صنعاء، وتعز.
أصيب الشباب بالإحباط، ومثلت مبادرة التعاون الخليجي الحلمة الكاذبة التي يُلَّهى بها الطفل الجائع، وفي ظل الحوار الوطني الشامل، كان التقاتل يدور في أكثر من مكان، وبالقرب من فندق الموفمبيك (مقر الحوار الوطني)، ومعنى استمرار الاشتباكات في غير منطقة، وبالأخص في صنعاء، أن رهان الأطراف الحاكمة ليس الحوار، ولا مخرجات الحوار، ولا المبادرة الخليجية، وإنما الغلبة والقوة.
الـ 21 من سبتمبر انقلاب بكل المعاني، ليس ضد محسن، وآل الأحمر، وتجمع الإصلاح فحسب، وإنما أيضًا ضد ثورة الربيع العربي، وضد الثورة اليمنية: سبتمبر، وأكتوبر، والوحدة المحروبة من كل أطراف الصراع.
الصراع على السلطة، والرغبة في التفرد، سردية الصراع بين المؤتمر الشعبي العام، والتجمع اليمني للإصلاح، ورموزههما العسكرية والقبلية؛ فالحوار بالنسبة لهما استراحة محارب، والاستعداد للحظة الحسم.
تحالف الضرورة في انقلاب 21 سبتمبر 2014 لم يدم طويلاً؛ فما أن توارى الإصلاحيون، وهرب عبد ربه منصور؛ حتى بدأ «الأخوة الأعداء» المواجهة التي انتهت بمقتل صالح.
الحرب في اليمن بين المليشيات الكثيرة وتجار الحروب هدفها الأساس الاستيلاء على السلطة، ونهب الثروة، والتفرد، بينما تغيّا الصراع الإقليمي حسم صراعاته في اليمن على حساب اليمن، وتفكيكها، وتمزيق نسيجها المجتمعي، ولعبت الرباعية الدولية الدور الأخطر في توفير الدعم للصراع، والتغطية القانونية والسياسية.
لا خلاص من الحرب، وحالة «اللاسلم»، و«اللاحرب»، إلا بيقظة وطنية، ونهوض شعبي يغمر الأرض اليمنية كلها.
كانت الانقلابات العسكرية والحروب داء السودان الوبيل، ولعل أخطرها وأطولها انقلاب الجبهة الإسلامية القومية بزعامة البشير، وحسن الترابي في 20 يونيو 1989، ولم يكن الإسلام السياسي اليمني غائبًا عن الصراع في السودان؛ فقد بايع قادة الإسلام السياسي جعفر محمد النميري أميرًا للمؤمنين، وشاركوا بتمويل انقلاب البشير والترابي بثلاثمئة ألف دولار، كما تؤكد شهادة السفير السوداني في اليمن حينها سيد أحمد الحردلو.
انقلاب الجبهة الإسلامية هو الأسوأ على الإطلاق في الانقلابات كلها؛ فقد أوغلت الجبهة في الحرب ضد الجنوب، والدفع لانفصاله تحت شعار «وحدة العقيدة أهم من وحدة التراب»، وفَتحَ قادة الانقلاب بيوت الأشباح، وفرضوا أسلمة مجتمع وشعب شديد التنوع والتعدد في الإثنيات والأعراق والديانات، وكرس الانقلاب الاستعلاء الديني، والشوفينية القومية، والهيمنة الجهوية، والتعصب الحزبي، وطُبّقت أحكام الشريعة على وثنيين عراة، وأُعدم عالم الدين المجتهد محمود محمد طه، وحُوربت المدارس الصوفية المتجذرة في السودان، وقُمعت الاتجاهات السياسية، والإسلام المستنير، وأسس الترابي الأممية الإسلامية، ووضع السودان في مواجهة امتداده الإفريقي، وانتمائه القومي، وصار السودان- موطن التفتح والتسامح والاستنارة- مركزًا للاتجاهات المتطرفة والإرهابية، وغرست «ثورة الإنقاذ»- كما أسموها- العداوات والأحقاد والصراعات في بلد مجده وهويته وكيانه قائم على تعدد الأعراق، واختلاف الديانات، وتنوع اللهجات، والانتماءات القومية، والتركيبات القبلية الكثيرة، وتغلغلت الجبهة في كل مفاصل الجيش، وأسس البشير قوات الدعم السريع؛ لقمع احتجاجات دافور؛ ولمواجهة أي تمرد محتمل للجيش.
تصدى الجيش، والدعم السريع للانتفاضة الشعبية المتصاعدة منذ العام 2013، وقاما بقمع متواصل للانتفاضة.
العجز عن إيقاف الانتفاضة بعد اقتحام الاعتصام أمام القيادة العسكرية، وقتل أكثر من مئة وعشرين، دفعهما للقيام بالانقلاب على سيدهما البشير الذي أفتاهما بجواز قتل ثلث الشعب حسب المذهب المالكي.
تشاركا مع الدكتور عبد الله حمدوك في حكومة من الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، ثم انقلبا ضدها بعد بضعة أشهر.
تواصلت الانتفاضة، واتسع نطاقها، فأعادا الكرة في الحوار مع مجموعة المجلس المركزي، واختلفا على المواقع، والخطوات القادمة؛ ففجرا أخطر الحروب منذ الثورة المهدية في القرن التاسع عشر.
منذ أبريل 2023، وحتى اليوم، تعسكر قوات التدخل السريع في العاصمة المثلثة، ويحتلون المراكز الحكومية، والمؤسسات، والمستشفيات، وينهبون كل شيء، ومارسوا في دارفور أبشع الجرائم كالاغتصابات الكثيرة دأبهم في الحروب السابقة. وتقوم قوات البرهان الملغوم بالفلول والكيزان من كتائب الظل، وقوات الدفاع الشعبي، والأمن الشعبي، وكتائب التابعين- بالمشاركة في هذه الحرب الإجرامية.
الحرب المسعرة منذ أشهر شردت الملايين، وقتلت مئات الآلاف، ودمرت كيان الدولة، ومؤسسات الحكم، وقامت بنهبها، ونهب البنوك، ومنازل المواطنين، والأسواق.
ما يجمع بين الحربين الإجراميتين في السودان واليمن، والقيادات المتحاربة هنا وهناك- العداء للحياة المدنية، وللحداثة، والديمقراطية، والتغيير، والعدل الاجتماعي؛ ففي اليمن كل قادة المليشيات المتحاربة معادية للثورة والجمهورية، وضد الوحدة الديمقراطية والسلمية، وتقاتلها لا يعني غير إصرار كل طرف على التفرد بالسلطة، ونهب الثروة، والارتهان للصراع الإقليمي، والرهان على حكم الغلبة والقوة.
أما في السودان، فالطرفان في الحرب هما وجهان لعملة واحدة، خرجا من جلباب الترابي، ومعطف البشير، وكل من عبد الفتاح البرهان، ومحمد حمدان حميدتي دقلو يريد التفرد بالسلطة، ونهب الثروة، وهما مشتركان في الحرب ضد الانتفاضة المتواصلة منذ العام 2013، وعدوان لدودان للديمقراطية، والحياة المدنية، والعدل الاجتماعي.
تجار الحروب في اليمن والسودان عجزا عن حسم الصراع، ويريان في السلام أخطر تهديد لتسيدهما.
الملمح الأهم في السودان فشل انتصار طرف على آخر، وصعوبة عودتهما إلى الحكم كشريكين، أو اقتسام السلطة، كما أن استحالة الحسم العسكري في اليمن، يؤكد استحالة انفراد طرف من الأطراف بالحل السياسي، ومن باب أولى الانفراد بالسلطة.
كانت بداية النكوص عن أهداف ومبادئ الثورة السبتمبرية في الخامس من نوفمبر 1967، ثم أحداث أغسطس 1968، وما سُمِّيَ يومها بـ «المصالحة الوطنية»، عام 1970، وفي الجنوب كانت 13 يناير 1986 قاصمة الظهر، وكان مقتل الشهيدين: سالم ربيع علي، وإبراهيم الحمدي، بداية الخط الراجع، ومَثَّلَ عهد صالح الممتد لأكثر من ثلاثين عامًا ذروة الارتداد عن الثورة اليمنية: سبتمبر، وأكتوبر..حرب 1994 شاهد انتصار الثورة المضادة شمالاً وجنوبًا، أما السودان، فإن انقلاب الجبهة الإسلامية القومية هو الذي يسعر الحروب حتى اليوم.