مأزق أمريكا الإيرانى..
الاثنين 05 فبراير 2024 - الساعة 11:41 مساءً
عبدالحليم قنديل
مقالات للكاتب
أيا ما كان رد واشنطن العسكرى على عملية "البرج 22" فى الأردن ، فربما لن يتغير شئ كثير جوهرى فى معادلات اللحظة الفوارة بالمنطقة ، فأمريكا إلى تراجع متصل فى الحضور والنفوذ ، لن يغيره صخب وقعققعة السلاح برا وبحرا وجوا ، بينما إيران فى المقابل ، تحاول استثمار ما جرى ويجرى ، وكسب دور حاكم فى المشرق العربى والخليج بالذات ، بعد نجاحها عبر عقود فى مد حدودها الاستراتيجية إلى شواطئ البحر المتوسط والبحر الأحمر جنوبا .
وافترض جدلا ، أن الرءوس الحامية فى واشنطن ، غامرت فى الحسابات ، وهاجمت البر الرئيسى لإيران ، وهو ما لا يبدو مرجحا حتى ساعة كتابة هذه السطور ، لكنه لا يبدو مستبعدا بالكامل ، خصوصا أن عملية "البرج 22" ، التى تمت بطائرة مسيرة من طراز إيرانى ، أدت إلى مقتل وإصابة عشرات العسكريين الأمريكيين ، وهو ما وضع إدارة الرئيس الأمريكى "جو بايدن" فى حرج غير مسبوق ، مع تعاظم الجدال والمشاحنات بين حزبه الديمقراطى والحزب الجمهورى المنافس ، وتعمد "دونالد ترامب" المرشح الأوفر حظا عن الحزب الجمهورى ، أن يستثمر ما جرى لوضع "بايدن" فى الزاوية الحرجة وقفص الاتهام ، وإظهار ضعفه وتهاونه ، وتركه لجنود أمريكا لقمة سائغة بيد جماعات موالية لإيران فى العراق وسوريا ، وكانت جماعات ولاء إيرانى عراقية ، قد أعلنت مسئوليتها عن الهجوم ، ثم تراجعت "كتائب حزب الله" العراقية فى بيان لاحق ، وأعلنت توقفها عن شن هجمات على القواعد الأمريكية ، وأنها ستكتفى بواجب الدفاع إذا هوجمت ، وهو ما بدا كرجع صدى للموقف الإيرانى ، الذى تنصل علنا من هجوم "البرج 22" ..
وأعلنت إيران كالعادة ، أن الجماعات المؤيدة لها ، تتصرف بقرارها المستقل دون إملاء من طهران ، أو مراجعة لها ، وهو ما دأبت عليه إيران منذ عملية "طوفان الأقصى" الفلسطينية ، التى بادرت طهران لنفى علمها بها مسبقا ، وهو ما كان صحيحا باعتراف واشنطن ذاتها ، وإن حاولت إيران أحيانا قطف بعض الثمار ، وادعت دوائر فى "الحرس الثورى الإيرانى" ، أن عملية "طوفان الأقصى" فى السابع من أكتوبر الماضى ، كانت من ردود طهران على اغتيال الأمريكيين لقائد "فيلق القدس" السابق اللواء "قاسم سليمانى" بالقرب من مطار بغداد أوائل 2020 ، وبما استدعى دحضا سريعا من حركة "حماس" ، التى أكدت استقلالية عملها وخططها وشخصيتها كحركة تحرير وطنى فلسطينية ، وكانت النتيجة الفورية ، أن استدركت إيران الخطأ ، وعادت إلى تأكيد نفى صلتها بتدبير "طوفان الأقصى" ، أو العلم المسبق به ، وبدا الكلام منطقيا ، خصوصا مع تتابع الحوادث والعواصف ، وصولا لعمليات اغتيال القائد الحمساوى "صالح العارورى" فى ضاحية "بيروت" الجنوبية ، واغتيال قادة من "حزب الله" وثيق الصلة بطهران ، بل واغتيال عدد من قادة "الحرس الثورى" الإيرانى فى سوريا بغارات إسرائيلية ، واغتيال بعض قادة فصائل عراقية ولائية بغارات أمريكية انتقائية ، ومن دون أن تقدم طهران على رد محسوس مباشر ، تماما كما هو موقفها الفعلى من حرب الإبادة الجماعية فى "غزة" ، وإعلانها أنها لن تخوض حربا من أجل "غزة" ، وإن أكدت على الدوام تأييدها ودعمها لحركات المقاومة الفلسطينية..
وهو ما قد يعنى ببساطة أن أى هجوم أمريكى على أطراف خرائط النفوذ الإيرانى مهما كانت شدته ، لن يلقى بالضرورة ردا مباشرا فوريا من طهران ، ربما حتى لو تضمن الهجوم الأمريكى اغتيالات مباشرة لعناصر قيادية إيرانية ، أو حتى استهدافا مباشرا لمواقع مختارة فى الداخل الإيرانى ، أو تدميرا لقطع بحرية إيرانية ، ناهيك عن إضافة سلاسل عقوبات مالية واقتصادية جديدة على إيران وجماعاتها الرديفة ، وعلى جماعة "حزب الله" اللبنانى بالذات ، وهو أقوى تهديد عسكرى وجودى شمال كيان الاحتلال الإسرائيلى .
وقد لا يعنى عدم توقع الرد الفورى ، أن طهران قد تبتلع ما يجرى دون تعقيب يجئ متأخرا ، فلا تبدو إيران اليوم حريصة على الدخول فى حرب مباشرة واسعة مع واشنطن ، وهو ما يلتقى غالبا مع رغبات إدارة "بايدن" ، التى قد تميل لحصر سلوكها فى ردود متفرقة ، ودون مستوى الحرب الإقليمية الشاملة ، على نحو ما فعلت وتفعل فى هجمات ضد قواعد "الحوثيين" باليمن ، وما تفعله وقد تواصله فى العراق وسوريا ، ورغم التقاء الطرفين الظاهر على عدم التورط فى حرب شاملة ، إلا أن مأزق أمريكا يبدو أكثر ظهورا ، فقد ادعت منذ بدء حرب "غزة" ، أنها تسعى لمنع توسع رقعة الصراع الإقليمى ، إلا أنها تورطت بقواتها وأساطيلها فى توسيع نطاق الحرب فعليا ، بتكوين ما يسمى "تحالف الإزدهار" فى البحر الأحمر ، ومن دون نجاح يذكر فى جذب دول عربية أساسية للتحالف المذكور ، فالدول العربية المعنية لها حسابات أخرى ، ويعتقد بعضها أن وقف الحرب والعدوان "الإسرائيلى" على "غزة" ، هو مفتاح إطفاء النيران متزايدة الاشتعال فى المنطقة ، وهو ما تبدى واشنطن تجاوبا ظاهريا معه ، وإن كانت لا تسعى إلى ضغط حقيقى على حكومة "بنيامين نتنياهو" لوقف حرب إبادة عشرات آلاف المدنيين العزل فى "غزة"..
بل تستمر بالمشاركة الفعلية الميدانية فى حرب شلالات الدماء وزلازل الدمار ، وتزويد ربيبتها "إسرائيل" بكل أنواع الأسلحة والطائرات والقذائف والقنابل الذكية والغبية ، وتسرع فى اتمام صفقة سلاح متطور كبرى للعدو بقيمة 20 مليار دولار ، فيما يبدو "بايدن" عاجزا عن لجم وردع "نتنياهو" ، الذى يورط أمريكا نفسها فى هزيمة استراتيجية فعلية على الأرض الفلسطينية ، وفى انحطاط أخلاقى وعزلة سياسية مخجلة على الصعيد الدولى ، وفى تمرد ضمائر ومظاهرات ملايين غاضبة من بربرية وهمجية الحرب الوحشية ، وهو ما يشجع "طهران" على مواصلة رهانها فى كسب نفوذ مضاف ، وتحمل كل الخسائر المتفرقة على جبهات ما تطلق عليه "محور المقاومة" ، فكلها خسائر تكتيكية لا تعوق الكسب الاستراتيجى ، بل ربما تضيف إليه ، فالأمر متعلق هذه المرة بالقضية الفلسطينية ، والأخيرة لها وزن حاسم غلاب عند شعوب الأمة العربية كلها ، بينما أغلب أنظمة الحكم العربية فى واد آخر ، لا يملك بعضها فرصة الجهر بالعداء المتربص بالمقاومة الفلسطينية وإنجازاتها ، ولا فرصة التبجح برغبات مواصلة التطبيع فى مثل هذه الظروف إلى حد التحالف مع "إسرائيل" ، التى تخذلهم وتفضحهم عند شعوبهم ، ولا تبدى أدنى استعداد للتجاوب مع حلول من نوع "حل الدولتين" ، أو إقامة كيان فلسطينى حتى لو كان منزوع السلاح ، بل يرفض "نتنياهو" وحكومته أى نقاش فى مثل هذه الموضوعات ، ولا حتى على سبيل المناورة العابرة ، وهو ما يضع النظم التى عولت على واشنطن فى قفص الاتهام والانكشاف الكلى ، ويضع أمريكا ذاتها فى خانة بوار الخطط ، وتأكيد العجز حتى عن إدارة الصراع لا حله بالضرورة ، فقد تحطمت قواعد اللعبة المتصلة لعقود قبل "طوفان الأقصى" ، وبانت أصول التحالف المطلق بغير حدود بين واشنطن وتل أبيب ، فيما ظهرت النظم الحليفة التابعة لواشنطن فى حالة صفرية ..
وهو ما قد يوسع المجال أكثر لصالح طهران ، التى استأثرت لنفسها بدعوى خدمة قضية الحق الفلسطينى ، والعداء المعلن لكيان الاحتلال ، واستفادت من تخلى أغلب الأنظمة العربية عن القضية ، واستثمرت عقود الضعف والهوان العربى الرسمى ، وملأت فراغا تركته خلفها النظم العربية فى المشرق والخليج ، وتمددت وتمطت فى عواصم عربية تضعضعت أحوالها ، وقدمت نفسها بديلا للهيمنة الأمريكية ، ونسجت بدأب علاقات وثيقة مع روسيا والصين المناهضتين للهيمنة الأمريكية ، ونجحت فى تجاوز والالتفاف على كثير من عقوبات "الضغط الأقصى" الأمريكية ، ودخلت فى منازلات مخفية ومرئية مع "الأرمادا" العسكرية الأمريكية ، أسقطت خلالها أعقد وأغلى طائرة مسيرة أمريكية قبل سنوات ، ثم بدا سلوكها محسوبا بعناية بعد خروج "ترامب" من الاتفاق النووى ، وطورت إمكانات برنامجها النووى ، ورفعت نسب تخصيب "اليورانيوم" فى إطراد ، وباتت جاهزة لصناعة وتفجير قنبلتها الذرية ، مع قفزات برامجها الصاروخية وصناعات طائراتها المسيرة المتنوعة قليلة التكاليف ، وأرغمت بعض خصومها الإقليميين على عقد اتفاقات معها برعاية التنين الصينى ، وهو ما عد تسليما ضمنيا بحقائق جديدة راكمتها إيران بصبر ودأب ، وساعدتها تراجعات مفجعة فى الحالة العربية العامة ، أولها كان غياب مصر عن المشرق العربى بعد عقد ما تسمى "معاهدة السلام" ، وثانيها كان إنفاق عشرات ومئات مليارات الدولارات على حملات تكفير الشيعة العرب ، وتقديمهم كهدايا ومدد لقوة إيران ، وثالثها كان المشاركة العربية فى المجهود الحربى الأمريكى لغزو وتحطيم العراق ، وبما ترك فراغا استراتيجيا موحشا ، تقدمت إيران لملئه ولا تزال ، ودونما حقوق لوم مستحقة للقاعدين على الناهضين فى صدامات الجغرافيا والتاريخ .
▪︎ كاتب ومفكر مصري