ترامب الوجه الحقيقي لأمريكا الاستعمارية
الخميس 13 فبراير 2025 - الساعة 07:18 مساءً
يستغرب البعض من موقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاه تهجير الشعب الفلسطيني من غزة ويعدونه ضمن القرارات الغريبة وغير المستقيمة مع سياسات أمريكا المنادية بالحرية وحقوق الإنسان.
ولعل المتابع لتاريخ أمريكا ونشأتها ومواقفها المتتالية بشأن حقوق الشعوب وقضايا العالم الثالث، وخاصة القضية الفلسطينية، يدرك أن ما أعلنه ترامب يعد تعبيرًا صريحاً عن حقيقة أمريكا كدولة قامت على أثر أكبر مذبحة استهدفت ٥٠ مليونًا من الهنود الحمر، قتلوا واستولت على بلدهم. ومن ثم فتحت أبواب البلاد مشرعة للهجرات والتجنيس، وانطلقت في الفضاء الرأسمالي القائم على مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة". ومن أجل ذلك، تستبيح العالم بخلق غايات وهمية وغير حقيقية مستخدمة كل الوسائل العنيفة لتحقيق غاياتها الحقيقية في التوسع ومد السيطرة في بقاع عديدة في العالم.
وفي سياسة أمريكا الثابتة تجاه القضية الفلسطينية، فإنها تبرر قتل الأطفال والنساء وهدم المنازل واستباحة الأراضي وأخيرًا التهجير تحت مبرر كاذب مثل القضاء على حماس بتصويرها كيانًا إرهابيًا، أو مبررات مغلفة بدواعي إنسانية.
يرى الأمريكيون دائمًا أن التاريخ يبدأ الآن، وهذه نظرة تلغي الحقوق وتهدر السيادة. وهم بهذه النظرة يهربون من ماضيهم وجرائمهم بحق الهنود الحمر، ويتسق هذا النهج مع إيقاعات الحياة في أمريكا الهاربة إلى الأمام دون التوقف عند مراحل دهس حقوق الآخرين والبقع السوداء في تاريخهم.
وعند النظر إلى منطق ترامب بتهجير سكان غزة إلى مصر أو الأردن أو السعودية، نجده منطقًا ليس غريبًا عن نشوء أمريكا التي نشأت كموطن لكل من يستطيع عبور المحيط وليس كوطن، حسب توصيف الأستاذ محمد حسنين هيكل في كتابه "الزمن الأمريكي: من نيويورك إلى كابول".
ولذلك يتحدث الآن ترامب عن غزة أو فلسطين كموطن يمكن إحلال أناس آخرين فيه، وليس كوطن له سيادة وحضارة وتاريخ وقيمة لدى كل أبنائه الحقيقيين، وهو ما يجسده صمود المقاومة الفلسطينية منذ عقود رغم جرائم الإبادة وصلف المحتل وغروره.
والموقف الأمريكي المساند للعدو الصهيوني هو موقف مبدئي لتشابه تاريخ البلدين. فأمريكا كما هي إسرائيل دولتان غازيتان استولتا على أراضي غيرهما وارتكبتا جرائم بحق الإنسانية.
وتتشابه فكرة تمددهما الاستعمارية؛ فكما فعلت أمريكا في إبادة الهنود الحمر لأنهم مالكو الأرض وأصحاب الاعتبار القانوني وعائق أمام تمدد القادمين من شواطئ أوروبا حينها، فإن إسرائيل تسير في نهجها الاستيطاني على نفس المسار الأمريكي.
وما التصور الأمريكي الصهيوني لتهجير السكان الأصليين لغزة إلا مثالًا ناصعًا على صلف الوجود وعنجهية القوة التي تتيح لمالكها اغتصاب أراضي الآخرين وقتلهم وتهجيرهم دون اعتبار لحقوقهم التاريخية والوجودية والقانونية بالأرض والممتلكات والحياة الآمنة.
وكما لا تؤمن أمريكا بوجود أمة عربية، وإنما بوجود شعوب لدول عربية، فهي تسعى دائمًا لترسيخ هذا الواقع المتشظي للوطن العربي ومحاربة كل خطوات التقارب العربي لأنها ترى أن هذه القيم والمبادئ والأواصر تهدد مشروعها التوسعي، وتناقض قيم وجودها العارية من أواصر التاريخ المشترك والشعب الواحد.
ولذا نجد أمريكا منذ عقود تحارب القومية العربية وكل دعوات التقارب بناءً على حقيقة الشعب العربي الواحد الذي تجمعه اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة.
كما تشترك أمريكا وإسرائيل بالاعتماد على القوة وحدها لتحقيق الأهداف دون إعارة للحقوق والحريات. وهي قوة مجردة من كوابح المبادئ والقيم والثقافة، وتتحول إلى مصدر للمشروعية. ويتحول معها "الاغتصاب" إلى "حيازة" و"الحيازة" إلى ملكية تسن لنفسها قوانين جديدة قائمة على مبدأ الغلبة والسيطرة حسب توصيف الأستاذ هيكل.
وهذا المنطق المغرور تجسد واقعيًا في الحرب على العراق، والاحتلال الصهيوني القائم للأراضي الفلسطينية وكل حروب أمريكا في فيتنام وأفغانستان وغيرها.
ولذا عندما نتعامل مع السياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية أو العالم الثالث يجب أن نأخذ بالاعتبار هذه المقتضيات حتى نفهم طبيعة الصراع ونهج العدو المتغطرس، ولا نظهر في موقف المصدوم من مثل هذه المواقف التي لا تعبر عن جنون إدارة ترامب بقدر ما تعبر عن موقف السياسة الأمريكية التي ربما تناور بين إدارة وأخرى بناءً على مقتضيات الواقع السياسي والعسكري في المنطقة.
فالسياسة الأمريكية القائمة على المنفعة تبيح كل المحظورات من أجل تحقيق الغاية ولو على حساب الحق التاريخي والقانوني وحقوق الإنسان وحرية الشعوب ومكتسبات السيادة.
كما تؤمن بأن هذه الأرض التي منحها الله للإنسان لاستغلالها وتعميرها يملكها ويستغلها الأقدر. ومن هذا المنطلق المتغطرس بالقوة تمت إبادة الهنود الحمر وتستمر الحرب الصهيونية على فلسطين وكل المناطق العربية. ولن تنتهي جولاتهم عند حدود الصراع القائم بل ستمتد لدول وجغرافيا جديدة.
ما يستدعي من الدول العربية أن تستوعب طبيعة هذا العدو الذي يستهدف الجميع، وأن إيقاف عنجهيته مرتبط بموقف عربي موحد، وعدم التفريط بحق الشعب العربي الفلسطيني بأرضه وحق وجوده على ترابه. لأنه لو تم هذا التفريط، فإن حلقات الصراع ستتمدد رويدًا رويدًا في واقع جديد للصراع ربما لن يتوقف فقط عند أسطورة الصهاينة الوهمية بأن أرضهم من النيل إلى الفرات، بل سيذهب إلى ما هو أبعد من ذلك.