بين الشعارات والواقع.. كيف نحقق التمكين الفعلي للشباب؟
الثلاثاء 18 فبراير 2025 - الساعة 06:52 مساءً
يُثار الحديث عن "تمكين الشباب" في كل مناسبة، وكأنه الوصفة السحرية لحل الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. تتكرر المطالبات بإشراك الشباب في المناصب القيادية، وكأن الصعود إلى الكراسي هو الغاية الكبرى، وكأن التمكين لا يتحقق إلا بقرارات تعيين أو مقاعد في الحكومات والبرلمانات. لكن هل هذا هو التمكين الذي نحتاجه فعلًا؟ وهل الوصول إلى السلطة كافٍ لصنع التغيير؟ أم أن التمكين الحقيقي أعمق وأبعد من مجرد منصب؟
إن القوة، بمفهومها العلمي والعملي، لا تأتي من موقعٍ أو لقب، بل من امتلاك الأدوات التي تجعل الإنسان قادرًا على الفعل والتأثير. في الفيزياء، القوة ليست مجرد طاقة مخزنة، بل هي القدرة على إحداث التغيير في الحالة الحركية للأجسام. وإذا أسقطنا هذا المفهوم على الواقع، فإن التمكين ليس في "الحصول على الفرصة"، بل في امتلاك القدرة على استغلالها. فالشاب الذي يُمنح منصبًا دون أن يمتلك المهارات والمعرفة والإرادة، لن يكون أكثر من رقمٍ جديد في سلسلة الأسماء التي مرت على هياكل السلطة دون أن تترك أثرًا.
لكن المشكلة لا تتوقف عند هذا الحد، بل تتجاوزها إلى مفهوم أوسع مثل الاقتصاد والإدارة. فالعالم اليوم لم يعد يحكمه أصحاب المناصب التقليدية فقط، بل من يمتلكون المعرفة، من يفهمون كيف تُدار الثروات، من يستطيعون التحكم في الأسواق، من يبتكرون ويؤسسون الشركات الناشئة التي تقود الاقتصاد الحديث. في الماضي، كان النفوذ مرتبطًا بالحكومات، أما اليوم فهو مرتبط بالقدرة على الإنتاج والتكنولوجيا والتأثير في القرارات الاقتصادية. لذا، فإن التمكين الحقيقي للشباب لا يكون بمنحهم وظائف حكومية، بل في تزويدهم بالمهارات التي تجعلهم قادرين على خلق فرصهم بأنفسهم، وعلى أن يكونوا لاعبين رئيسيين في الاقتصاد، لا مجرد مستهلكين ينتظرون التعيين.
وعلى الجانب السياسي، نجد أن بعض الشباب يختزلون التمكين في مجرد الوصول إلى المناصب، وكأن النجاح مرتبط فقط بالسلطة. لكن السياسة لا تعني فقط الجلوس على مقعد السلطة، بل تعني القدرة على فهم الواقع، قراءة الأحداث، التأثير في الرأي العام، والمساهمة في صناعة القرار من أي موقع. فكم من شخصٍ لم يحمل أي منصب رسمي، لكنه ترك بصمة غيرت مجرى الأحداث؟ وكم من مسؤولٍ ظل لسنوات في الحكم دون أن يُحدث أي تغيير يُذكر؟ إن التأثير لا يحتاج إلى كرسي، بل إلى فكرٍ ووعيٍ وإرادة.
أما على الصعيد الثقافي والاجتماعي، فإن المشكلة لا تكمن فقط في غياب الفرص، بل في غياب الاستعداد الحقيقي لاغتنامها. إن التمكين لا يكون بمنح الشباب منصاتٍ للحديث فقط، بل بضمان أنهم قادرون على التفكير النقدي، على التحليل، على اتخاذ القرارات المستقلة. فالحرية لا تعني أن تفعل ما تريد، بل أن تمتلك القدرة على قول "لا" لما يُفرض عليك دون وعي. اليوم، كثيرٌ من الشباب يتحدثون عن الاستقلالية، لكنهم في الواقع أسرى للموضة، للمؤثرين، لوسائل الإعلام الموجهة التي تصنع لهم أفكارهم دون أن يشعروا. إن التمكين لا يكون باتباع ما هو سائد، بل بامتلاك القدرة على التمييز بين ما هو نافع وما هو مجرد موجة عابرة.
إن التمكين الحقيقي لا يُمنح، بل يُكتسب. لا يأتي بقرارات فوقية، بل بالعمل والتجربة والتعلم. التمكين ليس وظيفةً تُمنح بمرسوم، بل هو معادلةٌ تحتاج إلى العلم والمعرفة والمهارة والاستقلالية الاقتصادية والفكرية. الشاب الذي يفهم أن القوة لا تأتي من المناصب، بل من القدرة على الفعل والتأثير، هو من سيكون قادرًا على تغيير الواقع، سواء كان داخل السلطة أو خارجها. أما من يعتقد أن التمكين مجرد فرصة سياسية، فسيرى نفسه محاصرًا في دائرة الانتظار، يطالب بمنصبٍ قد لا يأتي، أو يصل إلى كرسي لا يملك القدرة على تحريكه.
في النهاية، التمكين ليس شعاراتٍ تُرفع، ولا امتيازاتٍ تُمنح، بل هو قدرةٌ تُبنى. من يمتلك العلم، يمتلك القوة، ومن يمتلك القوة، يمتلك الحرية، ومن يمتلك الحرية، يصنع التغيير الحقيقي.