صعدة.. المظلومية المزمنة بين حكم الأئمة وتهميش الجمهورية

السبت 01 مارس 2025 - الساعة 11:29 مساءً

 

لطالما كانت صعدة أرضًا ذات خصوصية في التاريخ اليمني، ليس فقط بسبب موقعها الحدودي وقيمتها الجغرافية، ولكن لأنها كانت مسرحًا لصراعات متعددة، من حكم الأئمة الرسيين إلى تهميشها في ظل الجمهورية. وبينما صُنعت مظلومية مزيفة لصعدة في العهد الجمهوري لتبرير حروب الحوثيين، فإن الحقيقة التاريخية تكشف أن أبناء صعدة كانوا أول من عانوا من الظلم والتهميش منذ دخول الهادي يحيى بن الحسين إليها في القرن الثالث الهجري، حينما فرض مشروعه السلالي بالقوة، وحتى في عهد الجمهورية، حيث لم تحظَ صعدة بالاهتمام الكافي إنسانيًا وتنمويًا، ما جعلها فريسة سهلة لإعادة تحريزها في ظل الحوثية.

 

صعدة.. بداية المشروع السلالي

 

عندما دخل الهادي يحيى بن الحسين إلى صعدة عام 284هـ، لم يكن دخوله سلميًا كما تحاول الروايات الزيدية تصويره، بل جاء بقوة السلاح وفرض نظامًا لم يكن مألوفًا في اليمن. لم يكن اليمنيون في ذلك الوقت محكومين بفكر سلالي يفرض الولاية بناءً على النسب، لكن الهادي أدخل هذا المفهوم وفرض سلطته بالقوة، لتكون صعدة أول منطقة يمنية تُحكم بمنطق الاصطفاء السلالي، وهو ما جعلها تعاني عبر القرون من صراعات بين أبناء القبائل الذين رفضوا هذه الوصاية وبين القوى التي حاولت فرضها عليهم.

 

ظل الأئمة المتعاقبون ينظرون إلى صعدة باعتبارها “المعقل الأول” لمذهبهم، لكنها في الواقع كانت أيضًا ساحة للبطش ضد كل من يعارض حكمهم، حيث شهدت صعدة مجازر ومحاولات قمع لكل من خرج عن طاعة الأئمة، وصولًا إلى استخدام أهلها في الحروب المستمرة ضد بقية المناطق اليمنية.

 

الجمهورية وصعدة.. بين الإهمال والاستغلال

 

مع قيام ثورة 26 سبتمبر 1962، كانت صعدة قد أنهكتها قرون من الحكم الإمامي، وكان يفترض أن تنال حظها من التنمية والاندماج في المشروع الجمهوري. لكن الجمهورية واجهت تحديات كبرى، أبرزها الحروب التي أشعلها الأئمة الهاربون من صنعاء، وكون صعدة إحدى الجبهات التي استُخدمت لمحاولة استعادة الحكم الإمامي، ما جعلها تعاني من ويلات الحرب حتى بعد انتصار الجمهورية.

 

في العقود التالية، لم تحظَ صعدة بالاهتمام الكافي من الدولة، إذ بقيت في أطراف المشهد التنموي، وتركزت المشاريع التنموية في صنعاء والمدن الكبرى، بينما ظلت صعدة خارج الحسابات، رغم أنها من أكثر المحافظات حاجةً للبنية التحتية والخدمات. ومع ذلك، لم يكن هذا الإهمال مجرد صدفة، بل كان نتيجة حسابات سياسية خاطئة، جعلت صعدة بيئة خصبة لإعادة إنتاج الفكر السلالي.

 

تحريز صعدة قبل صنعاء.. كيف استُعيدت الإمامة تدريجيًا؟

 

في الوقت الذي كانت فيه الدولة غارقة في الفساد والصراعات السياسية، بدأ المشروع الحوثي يعيد ترتيب أوراقه في صعدة منذ التسعينيات، مستغلًا ضعف التواجد الحكومي وانتشار الفقر والجهل. ولأن صعدة كانت تاريخيًا النقطة الأولى التي بدأ منها الحكم الإمامي، فقد حرص الحوثيون على إعادة تحريزها أولًا، لتكون قاعدة انطلاقهم نحو بقية المحافظات.

 

بدأ الحوثيون بنشر أفكارهم عبر ما سمي بـ”الدورات الثقافية”، وتحركوا تحت غطاء ديني وتعليمي، بينما كانوا في الحقيقة يعيدون تشكيل المجتمع الصعدي وفقًا للرؤية السلالية التي ترى في أبناء صعدة مجرد أدوات لخدمة المشروع الإمامي الجديد. وعندما اندلعت أولى الحروب بينهم وبين الدولة عام 2004، كانت صعدة قد أُعيد تحريزها بالكامل، لتتحول من محافظة يمنية إلى معقل مغلق خاضع للفكر السلالي، تمامًا كما كانت في عهد الأئمة الأوائل.

 

ما حدث في صعدة لم يكن مجرد تمرد، بل كان استعادة ممنهجة للحكم الإمامي، حيث بدأ الحوثيون بفرض نظامهم بالقوة، وأعادوا فكرة “الخُمس”، وسيطروا على الأوقاف، وفرضوا المناهج الدينية الخاصة بهم، في تكرار واضح لما فعله الهادي يحيى بن الحسين قبل أكثر من ألف عام.

 

الخاتمة.. صعدة بين الحقيقة والتوظيف السياسي

 

اليوم، عندما يتحدث الحوثيون عن “مظلومية صعدة”، فإنهم يقلبون الحقائق، لأن صعدة لم تكن ضحية الجمهورية بقدر ما كانت ضحية المشروع السلالي الذي استخدمها مرتين؛ الأولى عند دخول الهادي إليها وإخضاعها لحكم الأئمة، والثانية عند إعادة تحريزها بيد الحوثيين في العصر الحديث.

 

إن المظلومية الحقيقية لأبناء صعدة هي أنهم لم يُعاملوا كمواطنين يمنيين لهم الحق في التنمية والاستقرار، بل استُخدموا كأدوات في معارك الأئمة قديمًا وحديثًا. وإذا كانت الجمهورية قد قصّرت في حقهم، فإن الحوثية لم تمنحهم سوى مزيد من العزلة والفقر والحروب، مما يجعل تحرير صعدة واستعادتها إلى صف اليمن الجمهوري ضرورة تاريخية لإنهاء دوامة الظلم التي امتدت لأكثر من ألف عام.

 

▪︎ اكاديمية ودبلوماسية سابقاً 

111111111111111111111


جميع الحقوق محفوظة لدى موقع الرصيف برس