حين أرسلتُ له جيتارًا بدلًا من الرصاص
الاحد 06 ابريل 2025 - الساعة 07:33 مساءً
أنا امرأة.
لا أكثر ولا أقل.
لكن في هذا الزمن، يبدو أن على المرأة أن تشرح دائمًا لماذا لم تكن بوقًا، ولم تصبح بندقية.
كنت أعمل مذيعة ومعدة برامج في قناة "الساحات"،
أدخل الأستوديو كمن يدخل إلى ساحة معركة،
أختار مفرداتي بعناية مشحونة، أضبط نبرة صوتي، أحرّض على الصمود، وعلى الموت النبيل.
كنت أُتقن الدور، وأظن أني في صف الوطن.
لم أكن كاذبة،
لكنني كنت عمياء.
لم أكن أرى كيف تصعد كلماتي إلى الجبهات،
ولا كيف يصدقها المراهقون،
ولا كيف تغلف الخنادق بشعارات ملوّنة.
كنت أتكلم بثقة، بينما يتساقط الأطفال كأوراق خريف محترق.
ثم كلّمني ابني.
بصوته المتعب، قال لي إنه ذاهب.
إلى الحرب.
إلى المجهول.
تجمد كل شيء في داخلي.
كأن الرصاص الذي باركته يومًا، وجّه سبابته إلى صدري أنا.
كأن أكاذيبي قررت أن تحصدني شخصيًا.
في تلك الليلة،
لم أصرخ. لم أجادل. لم ألقِ خطابًا جديدًا.
بل أرسلت له جيتارًا.
قطعة خشب وأوتار.
صوتًا ناعمًا في زمن قاسٍ.
حلمًا بسيطًا في وجه الكوابيس الجماعية.
ومن يومها، حمل الجيتار.
لم يذهب إلى الجبهة.
دخل غرفته، وانزوى، وبدأ يعزف…
كأنه يعزف لأجلنا معًا،
كأنه يطهّر بصوته جراحًا لم يعرف كيف يسميها.
**
أما أنا…
فتركت الشاشة.
تركت كل ما يُشبه التضليل،
وواجهت الحقيقة بصمت طويل.
لكن الحرب لا تكتفي بجولة.
ها هي تعود، بوجهٍ جديد، وبقصفٍ مرعب،
بخطابات مقاومة على وقع أبواق خارجية،
وبجوعٍ يتضاعف،
واستباحة لبلادنا على يد كل من لا يعنيه اليمن إلا كخريطة على طاولة التفاوض.
واليوم،
أقف وحدي.
لا منبر، لا حماية، لا دخل.
أبحث عن لقمة بكرامة،
وأرفض أن أكون شاهد زور جديد.
أرفض المقاومة حين تُختزل في فوهة بندقية،
وأرفض العبث الدولي الذي يتعامل مع اليمن كغنيمة.
**
أنا امرأة…
كنت هناك.
ورأيت كيف يتحول الإعلام إلى سلاح.
كيف يُغلف الموت بالقصائد،
وكيف يُرسل الأبناء إلى الجبهات ببطاقات شحن وكلامٍ فارغ عن "الشهادة".
لكني اليوم امرأة أكثر وعيًا.
أكثر فقرًا،
لكني أكثر صدقًا.
لا شيء يمكن أن يعيد ما خسرناه،
لكنني أحاول، كل يوم، أن لا أخسر نفسي من جديد.
وأكتب،
لا لأبكي،
بل لأشهد.
**
واليوم،
ابني أكثر وعيًا.
يقف في قلب العاصفة، لكنه لا يحمل سلاحًا.
يعيش متحمّلًا الموجة الحديدية من الحرب،
ولا يزال يقبض على أوتار الجيتار كأنها وطنه الصغير.
أما أسرتي،
فلا سند لها إلا الله.
ولا سلاح لها إلا ضميرها.
لم يتبقَّ لنا إلا هذا الضمير،
في وطنٍ نهشته الكلاب،
واقتسمته الوحوش،
وتواطأ عليه الجميع… إلا من أبى أن يُباع أو يُشترى.
وسنبقى،
نحمل الحقيقة عارية،
مهزومة،
لكنها ما تزال الحقيقة.
وسيبقى اليمن…
ما بقي فينا نبضٌ يقول: لا.
▪️إعلامية يمنية