السلاح الفردي وتفكيك الدولة الحديثة: نحو نقد جذري لمنطق التسلّح المدني في تعز

السبت 17 مايو 2025 - الساعة 09:36 مساءً

 

في ظل المشهد اليمني المعقّد، تُمثّل تعز نموذجًا صادمًا لما يحدث حين يفشل القانون، وتنهار مؤسسات الدولة، ويتحول السلاح الفردي من أداة دفاع إلى أداة تهديد لجوهر المجتمع نفسه. وبينما تتشدق بعض الأصوات بالدفاع عن "حق الفرد في حمل السلاح"، فإن الواقع في تعز يُظهر بوضوح أن هذا الحق، حين يُفصل عن منطق الدولة، لا يؤدي إلا إلى تكريس الفوضى، وتحويل الفضاء المدني إلى منطقة رمادية تتقاطع فيها الحسابات السياسية بالعنف الأهلي.

 

أولًا: من الحماية الذاتية إلى تهديد المجتمع – الانزلاق المفاهيمي في بيئة هشّة

 

يستند الخطاب المدافع عن حمل السلاح إلى أطروحات نمطية تروّج لمفاهيم مثل "الدفاع عن النفس" والدفاع عن الملكية الخاصة ومواجهة الحوثي  لكن هذه الطروحات تفشل تمامًا في بيئة كتعز، حيث لا توجد مؤسسات قادرة على تنظيم هذا "الحق" أو مساءلة حامليه. ما يحدث فعليًا هو تحوّل الأمن من شأن عام إلى وظيفة فردية قائمة على القوة لا على القانون، وهو ما يعيدنا إلى ما وصفه توماس هوبز بحالة "الحرب الكل ضد الكل"، ويُلغي مفهوم الدولة باعتبارها حامية للمجتمع.

 

ثانيًا: تسليح الأفراد وتآكل ما تبقّى من سيادة الدولة في تعز

 

يُفترض أن يكون احتكار السلاح واستخدامه حقًا حصريًا للمؤسسات الرسمية، غير أن الواقع في تعز يشهد العكس تمامًا؛ حيث تتكاثر المظاهر المسلحة، وتُستعرض القوة في الشوارع والأحياء، لا باسم الدولة بل باسم الأفراد والجماعات. ومع غياب المساءلة، تتحول المدينة إلى حقل تجريب للعنف المفتوح، وتُخلق سلطات موازية تتغذى من مناخ الإفلات من العقاب. كل ذلك يُسهم في تفكيك ما تبقّى من النسيج المدني، ويجعل الدولة في موقع المُتفرّج على عملية نزع شرعيتها.

 

ثالثًا: ثقافة الخوف وسوسيولوجيا الرعب

 

السلاح في تعز لم يعد أداة، بل أصبح ثقافة: ثقافة تقوم على الاستعراض، الهيمنة، وإثبات الذات عبر العنف. هذا التحوّل لا يهدد فقط السلامة الجسدية للمواطنين، بل يضرب في عمق البنية النفسية للمجتمع. الخوف يصبح هو اللغة السائدة، والعلاقات الاجتماعية تتفسخ أمام منطق القوة. وبدل أن يكون "الجار سندًا"، يصبح "تهديدًا مسلحًا محتملًا". هنا لا ينمو الأمن، بل تتجذر الرهبة، وينهار منسوب الثقة العامة.

 

رابعًا: دروس العالم – حين يصبح الحظر ضرورة لا خيارًا

 

تؤكد التجارب الدولية – من اليابان إلى أستراليا – أن الحدّ من السلاح في المجال المدني يؤدي إلى انخفاضٍ ملحوظ في معدلات الجريمة والقتل والانتحار. أما في تعز، فإن الإحصاءات الصامتة لضحايا الرصاص العشوائي، والاقتتال الأهلي، والسطو المسلح، تُظهر بوضوح أن استمرار التساهل مع السلاح الفردي هو مسار انتحاري يجرّ المدينة نحو التفكك الكامل. لا يمكن الحديث عن دولة في ظل انتشار السلاح، ولا يمكن بناء سلام دائم دون تفكيك هذه الثقافة.

 

خامسًا: من الخطاب المسلح إلى العقد المدني – مداخل لسياسة بديلة في تعز

 

الرهان يجب أن يكون على تفكيك الخطاب الاجتماعي الذي يربط السلاح بالكرامة، أو الرجولة، أو الأمان. وهذا لا يتحقق إلا من خلال سياسات متكاملة تبدأ بالتشريع الحاسم، وتمتد إلى التعليم، الإعلام، والعدالة الانتقالية. نحن بحاجة إلى سياسة تعيد الاعتبار إلى الإنسان كمواطن، لا كطرف مسلح. كل سلاح خارج القانون هو مشروع تهديد مباشر للعقد الاجتماعي. وكل تأخير في نزع السلاح، هو ترسيخ لمنطق الحرب الأهليّة الكامنة.

 

لا يمكن أن تنهض تعز دون نزع السلاح.

ولا يمكن أن تنشأ دولة حديثة في ظل شرعية مزدوجة للسلاح: شرعية الدولة و"شرعية" الجماعة.

 

منع حمل السلاح ليس ترفًا قانونيًا، بل شرط وجود. شرط نجاة. شرط بناء مجتمع يمكنه أن يثق بنفسه وبمؤسساته..في تعز، الرصاصة لا تحمي أحدًا، بل تقتلنا جميعًا، واحدًا تلو الآخر.

111111111111111111111


جميع الحقوق محفوظة لدى موقع الرصيف برس