مصفوفة الثقافة الوطنية في مناطق الشرعية: إعادة هندسة الهوية في زمن التشظي
الثلاثاء 10 يونيو 2025 - الساعة 07:55 مساءً
تعيش اليمن منذ سنوات في قلب أزمة مركبة: سياسية، إنسانية، وهوياتية. وفي هذا السياق، لا تقتصر معركة الشرعية على استعادة المؤسسات فحسب، بل تشمل أيضًا إعادة تشكيل الوعي الوطني عبر أدوات رمزية، من أبرزها مصفوفة الثقافة الوطنية. هذه المصفوفة، بوصفها حزمة من السياسات والبرامج والمضامين الثقافية، تشكّل اليوم إحدى آليات التحكّم الرمزي وإعادة إنتاج الشرعية في الوعي الجمعي، لا في النُظم الإدارية فقط.
تركز هذه المقالة على تحليل البنية السياسية والثقافية لمصفوفة الثقافة الوطنية في مناطق سيطرة الحكومة الشرعية، من خلال تفكيك مفرداتها، أهدافها، أدواتها، والتحديات التي تواجهها، في ضوء نظرية الثقافة السياسية ومفاهيم الهوية التفاوضية.
أولًا: مصفوفة الثقافة الوطنية – المفهوم والسياق
تُعرّف المصفوفة هنا بوصفها بنية متداخلة من السياسات الثقافية، والخطاب الرسمي، والمناهج التعليمية، والمبادرات المجتمعية، والإنتاج الرمزي الذي يُراد له أن يعيد تعريف "اليمن" و"المواطن" و"الوطنية" في مناطق الشرعية، وفق رؤى الدولة المفترضة.
السياق السياسي:
تعدد الشرعيات: في اليمن هناك سلطتان متنازعتان فعليًا، وكل منهما تسعى لبناء سرديتها الوطنية الخاصة.
انقسام رمزي وجغرافي: الخطاب الوطني في مناطق الشرعية لا يواجه فقط الحوثيين، بل أيضًا سرديات جنوبية استقلالية وقوى محلية متباينة.
تفتت السيادة الثقافية: لا تملك الحكومة الشرعية هيمنة كاملة على أدوات الثقافة من إعلام وتعليم ومؤسسات دينية.
ثانيًا: أهداف مصفوفة الثقافة الوطنية في مناطق الشرعية
تحاول المصفوفة في هذه المناطق تحقيق أهداف سياسية وثقافية واضحة، منها:
1. استعادة سردية الدولة اليمنية الواحدة أمام مشاريع الانفصال أو الحكم الذاتي.
2. بناء وعي سياسي داعم للشرعية والتحالف من خلال إعادة تعريف الوطنية.
3. تحصين المجتمع ضد الأيديولوجيات الحوثية (الهادوية السياسية، ولاية الفقيه، السلالية).
4. تصنيع ذاكرة وطنية موحدة تتجاوز التشظيات الجغرافية والمناطقية.
ثالثًا: أدوات المصفوفة – ما الذي يُستخدم لبناء الوطنية؟
1. المناهج الدراسية
يتم تعديل بعض مضامين المناهج لتعكس هوية "الجمهورية اليمنية" وتدين جماعة الحوثي بوصفها انقلابية.
إلا أن بعض المناهج ما تزال قديمة أو تعاني من ازدواجية الخطاب، ما يترك فراغًا تربويًا.
2. الخطاب الإعلامي الرسمي
يركز على تمجيد رموز الجمهورية والوحدة ورفض التمرد.
في المقابل، الإعلام غير الرسمي (الحزبي والمناطقي) يضعف هذا الخطاب أو يواجهه.
3. الأنشطة الطلابية والمخيمات الصيفية
تُستخدم كمنصات لتعزيز الانتماء الوطني، لكنها محدودة الانتشار والتأثير بسبب ضعف الإمكانيات.
4. المنتجات الرمزية والفنية
هناك محاولات لإنتاج أناشيد وأعمال درامية توحِّد الوجدان الوطني، لكنها ما تزال نادرة أو محدودة التمويل.
رابعًا: التحديات البنيوية التي تواجه المصفوفة
1. غياب مشروع ثقافي موحد: لا توجد رؤية ثقافية متماسكة لدى مؤسسات الشرعية، بل تكرار شعارات تقليدية.
2. انقسام المكونات المجتمعية: الانتماء للمذهب، القبيلة، أو الإقليم أقوى من الانتماء للدولة في وعي كثير من المواطنين.
3. تعدد المرجعيات داخل الشرعية نفسها: بعض مكوناتها لها رؤى متباينة حول شكل الدولة (فيدرالية، مركزية، انفصالية).
4. الاعتماد على الدعم الخارجي: يجعل الخطاب الوطني هشًا، لأنه لا يُبنى على تجربة سيادية مستقلة.
5. الفساد والضعف المؤسسي: يقوّض مصداقية أي خطاب وطني صادر من بنية مهترئة.
خامسًا: ما الذي ينبغي فعله؟
لإنتاج مصفوفة وطنية فعالة في مناطق الشرعية، يجب تبني رؤية تقوم على:
دمج الذاكرات المحلية ضمن سردية وطنية مرنة وشاملة.
تجذير مفاهيم المواطنة الحقوقية لا الانتماء العاطفي فقط.
تدريس الوطنية من خلال تجارب نضالية مشتركة لا شعارات سلطوية.
إشراك المثقفين والفنانين ومنظمات المجتمع المدني في صياغة الخطاب الوطني.
تعزيز الثقافة النقدية والاعتراف بالانقسامات بدلاً من إنكارها.
إن مصفوفة الثقافة الوطنية في مناطق الشرعية هي مشروع معقد يقع في تقاطع السياسة والتربية والهوية. وبقدر ما تحمل من طموحات لإعادة ترميم الوعي الوطني، فإنها تواجه تناقضات داخلية وخارجية تُضعف فاعليتها. وحده خطاب وطني تشاركي، تعددي، نقدي يمكنه أن يصمد في وجه قوى التشظي ويعيد تعريف "الوطن" كمساحة للعدالة والكرامة، لا فقط كراية تُرفع.