الإدارة بزمن الحرب معاناة يومية.. صراع البقاء بين شحة الموارد والمطالبة بالخدمات

الاثنين 28 يوليو 2025 - الساعة 01:19 صباحاً

 

منذ اندلاع الحرب في اليمن عام 2015، دخلت البلاد في دوامة أزمات متراكبة، لم تقتصر على الجوانب العسكرية أو الاقتصادية فحسب، بل طالت المؤسسات الإدارية في صميم بنيتها، ومع استمرار النزاع، تحوّلت الإدارة العامة من أداة فاعلة لبناء الدولة إلى ساحة يومية لصراع البقاء، تُخاض بلا أدوات، وسط شحة حادة في الموارد، وتآكل مستمر في الثقة العامة.

 

لم يعد المدير في اليمن موظفاً يسعى للتميز أو لتطبيق الخطط والبرامج، بل تحوّل، في كثير من الأحيان، إلى مجرّد مسيّر أعمال يُطفئ حرائق الأزمات، يُسائل دون صلاحيات، ويُطلب منه تحقيق نتائج دون تمكين حقيقي، في بيئة تتسم بالضبابية والتداخل والصراع على الصلاحيات.

 

نحن لا ننكر أن بعض المؤسسات قد سقطت في فخ الفساد أو الاستغلال أو سوء الإدارة. بل هناك ممارسات واقعية ساهمت في تعميق معاناة المواطن، وسلبت القطاع العام ثقة الناس. كما ساعد هذا الواقع في ترسيخ الصورة النمطية السائدة: أن الإدارة الحكومية مرادف للفشل أو التسيب.

 

ولكن... في المقابل، هناك آلاف المديرين في الميدان، يُديرون بالممكن، يواجهون نقص الموارد، وتعدّد السلطات، وغياب الموازنات، لكنهم يواصلون السير بإصرار أخلاقي لا يُمكن تجاهله. هؤلاء لا يظهرون في وسائل الإعلام، ولا تُذكر تضحياتهم، لكنهم من يحافظ على بقاء الدولة في أبسط صورها الخدمية.

 

أعمل كمدير عام للشؤون المالية في هيئة مستشفى الثورة، وفي هذا الموقع، أواجه كما غيري واقعاً لا يليق بأي منظومة إدارية حديثة، فلا توجد موازنة تشغيلية مناسبة، ولا بنود مالية مستقرة، ولا استقرار اقتصادي يُبنى عليه، ومع ذلك نحن مطالبون بالاستمرار، لا من أجل المؤسسات فحسب، بل من أجل المرضى، والمواطنين، والكوادر التي تعمل بأقل مما تستحق.

 

الإدارة المالية بطبيعتها تعتمد على أدوات: التخطيط، التقدير، الرقابة، والتحليل المالي، لكن ماذا تعني هذه المصطلحات حين تكون الموازنة وعداً بلا تنفيذ، والاعتماد المالي مرهوناً بمجهول زمني وسياسي؟ كيف نطبّق مبادئ الكفاءة والشفافية والحوكمة، ونحن بالكاد نُبقي المؤسسة واقفة على قدميها فقط؟.

المدير اليوم يقع تحت ضغط رباعي:

من السلطة العليا التي تُصدر التعليمات ولا تُوفر الموارد،

من المجتمع الذي يرى فيه رمزاً للخلل العام،

ومن الموظفين الذين يطالبونه بحقوق مشروعة يعجز عن تلبيتها.

ومن احتياجات العمل ومستلزماته.

وفي ظل هذا التوتر، لا يُنظر إليه كقائد، بل كحلقة ضعيفة يسهل تحميلها الفشل، أو تجاوزها إدارياً، أو التشكيك في ولائها المهني.

لكن ما لا يراه الكثيرون هو أن بعض المديرين اليوم يمارسون الإدارة كواجب أخلاقي، لا كامتياز وظيفي.

 

 إن كل تقرير يُعدّ، وكل نفقة تُرشد، وكل مريض يُعالج، هو شهادة جديدة على أن الإدارة في زمن الحرب ليست إدارة نماذج ومعايير، بل إدارة واقع قاسٍ، تشتبك فيه المسؤولية مع الضمير.

 

وفي ظل انكماش اقتصادي حاد، وتدهور العملة الوطنية، وتراجع الإيرادات العامة الى حد غير مقبول، وتعدد السلطات النقدية والضريبية، أصبح من شبه المستحيل الحفاظ على نسق مالي مستقر، لم تعد الرواتب تُصرف بانتظام، ولا التحويلات الحكومية تُضمن، ولا الإيرادات تُحصّل بالكفاءة المطلوبة.

 

ومع هذا، تظل المؤسسات الخدمية — وخصوصاً الصحية — في واجهة الصمود، تقدّم خدماتها للمجتمع، دون أن تُقابل بما تستحق من تقدير أو دعم.

 

ما نحتاجه اليوم هو خطاب وطني ناضج ومتوازن،يرفض التعميم الظالم بحق كل المديرين، يعترف بالخلل، ويطالب بالمحاسبة العادلة، يُعيد الثقة بالوظيفة العامة لا عبر التبرئة، بل عبر التقييم النزيه والدعم المؤسسي للمخلصين.

 

فالمدير اليمني لا يسعى للتقديس، بل فقط لبيئة عمل محترمة، وأدوات ممكنة، وإيمان بأن النجاة بالمؤسسة في زمن الحرب، ليست مسألة حظ، بل بطولة مؤسسية صامتة.

 

الإدارة في اليمن لم تعد فن التنظيم، بل معركة مستمرة من أجل البقاء المهني، وبين تآكل الإمكانيات، وتآكل الثقة، وتآكل الدولة نفسها، يقف آلاف المديرين في كل محافظة، يزرعون الأمل في مؤسسات مهجورة، ويواصلون العمل، لا لأنهم أقوياء بما فيه الكفاية، بل لأنهم لا يملكون رفاهية الانسحاب.

 

وهنا، تحديداً، يبدأ تاريخ جديد يُكتب ليس في مكاتب السلطة، بل في كواليس المرافق التي صمدت، رغم كل شيء.

111111111111111111111


جميع الحقوق محفوظة لدى موقع الرصيف برس