إيران وإسرائيل.. أبعاد التخادم والمواجهة في السياق العربي
الثلاثاء 05 أغسطس 2025 - الساعة 10:19 مساءً
تمهيد: من التحالف إلى العداء
تُعد العلاقة بين إيران وإسرائيل من أكثر العلاقات تعقيداً وتشابكاً في الشرق الأوسط. فهي تجمع بين عداء سياسي وأيديولوجي معلن، وتخادم غير مباشر يتجلى في لحظات متفرقة ضمن صراعات المنطقة. لم تكن هذه العلاقة جامدة أو خطية، بل مرت بتحولات عميقة، انعكست بشكل مباشر على البنية الجيوسياسية والإستراتيجية للمنطقة العربية.
قبل عام 1979، كانت إيران الشاه حليفاً استراتيجياً لإسرائيل. فقد جمعتهم مصالح مشتركة في مواجهة المدّ القومي العربي، خاصة بقيادة جمال عبد الناصر. وكان هناك تعاون استخباراتي وأمني واقتصادي واسع، تمثل في مشروع نقل النفط الإيراني إلى إسرائيل، والعلاقات التجارية والعسكرية التي ربطت الطرفين ضمن محور غير عربي.
لكن مع قيام الثورة الإسلامية، ورفع شعار "الموت لإسرائيل"، انقلبت الصورة ظاهرياً. إذ بدأت إيران في دعم قوى مناوئة لإسرائيل، كحزب الله وحركتي حماس والجهاد الإسلامي. ومع ذلك، فإن هذا التحول لم يُفضِ إلى قطيعة مطلقة، بل بدأ شكل من التخادم غير المباشر يظهر، حين تصب بعض نتائج الصراع الظاهري في خدمة استراتيجيات الطرفين دون تنسيق مباشر.
أولاً: التخادم غير المباشر بين إيران وإسرائيل
رغم الخطاب العدائي المتبادل بين إيران وإسرائيل، فإن الواقع السياسي يشير إلى أن هناك نمطاً من التخادم غير المباشر بينهما. يتجلى ذلك في عدة مظاهر:
1. استخدام العدو الخارجي كوسيلة للتعبئة الداخلية: كل طرف يستخدم الآخر كتهديد دائم لتعزيز سلطته الداخلية، فالنظام الإيراني يبرر القبضة الأمنية باسم مقاومة "العدو الصهيوني"، بينما توظف إسرائيل الخطر الإيراني لتوحيد المجتمع وتبرير السياسات العدوانية.
2. تقاطع الأجندات في إضعاف البنية العربية: تسهم تدخلات إيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن في تفكيك الجبهة العربية، وهو أمر تستفيد منه إسرائيل التي طالما سعت لإضعاف محيطها. بالمقابل، فإن العدوان الإسرائيلي المتكرر يعمّق الانقسامات الطائفية، ويوفر لإيران مبررات لتوسيع نفوذها.
3. إبقاء النزاعات مفتوحة: يتجنب الطرفان –رغم التوترات– الوصول إلى مواجهة شاملة قد تُفقدهما أوراق اللعب في المنطقة. فحزب الله، ورغم امتلاكه ترسانة ضخمة، لم يفتح جبهة شاملة منذ 2006، فيما تكتفي إسرائيل بضربات محدودة في سوريا.
4. التوازن في الخطاب والميدان: يظهر التخادم أيضاً في بقاء المواجهات بين الطرفين في هامش مضبوط، بحيث لا تؤدي إلى انهيار تام لأي طرف، وهو ما يثير الشكوك حول حقيقة هذا الصراع.
ثانياً: تأثير التخادم على الأنظمة العربية
يُعد الصراع الإيراني–الإسرائيلي أداة فاعلة في إعادة تشكيل مواقف وسياسات الأنظمة العربية. فقد أدى هذا التوتر إلى بروز محاور إقليمية جديدة:
1. محور "الاعتدال" والتطبيع: دفعت المخاوف من التوسع الإيراني بعض الأنظمة العربية، لا سيما في الخليج، إلى تقارب غير مسبوق مع إسرائيل، وصل إلى توقيع اتفاقات تطبيع. يُبرر هذا السلوك كضرورة إستراتيجية لكبح التمدد الإيراني.
2. محور "الممانعة" وتحالف الضرورة: في المقابل، رأت بعض الأنظمة أو الفواعل (مثل سوريا، والحوثيين، وحزب الله) في إيران حليفاً يمكن الاعتماد عليه لمواجهة إسرائيل أو النفوذ الأميركي، وهو تحالف تفرضه الضرورة لا الانسجام التام.
3. تآكل السيادة الوطنية: كثير من الدول العربية، خصوصاً تلك التي تحولت إلى ساحات صراع (العراق، سوريا، اليمن، لبنان)، فقدت جزءاً من سيادتها لصالح فاعلين غير دولتيين تدعمهم طهران أو تتدخل ضدهم إسرائيل، مما يُنتج كيانات هجينة تتحكم بها توازنات خارجية.
4. تخلي الأنظمة عن القضية الفلسطينية: استخدمت العديد من الأنظمة القضية الفلسطينية لتبرير استبدادها، لكنها اليوم تخلت عنها تدريجياً، إما بسبب انشغالها بتهديد إيران أو لتحصيل رضا الغرب عبر بوابة إسرائيل.
ثالثاً: تفكيك الشعارات.. من الممانعة إلى المناورة
تُظهر قراءة نقدية للخطابات السياسية أن الكثير من الشعارات المرفوعة في الصراع الإيراني–الإسرائيلي تتسم بالمناورة والتناقض:
شعار "الموت لإسرائيل" الذي ترفعه إيران، يقابله تحفظ واضح في عدم مواجهة إسرائيل مباشرة، حتى بعد استهدافات متكررة لمواقع إيرانية في سوريا.
المقاومة والممانعة أصبحت تُستخدم كشعار لتبرير القمع الداخلي أو لشرعنة التدخل الإقليمي، بينما تتحول على الأرض إلى أداة لإدامة الأزمات.
الدفاع عن الشيعة أو السنة، كما ترفعه إيران أو خصومها، يتحول في حالات كثيرة إلى توظيف طائفي لمصالح جيوسياسية، بعيداً عن أي مشروع تحرري حقيقي.
دعم فلسطين من كلا الطرفين (إيران وإسرائيل ضمنياً عبر إبقاء الانقسام)، يخدم في النهاية استدامة الصراع لا إنهاءه.
رابعاً: اختبار القضية الفلسطينية في مرآة الصراع
القضية الفلسطينية تقف اليوم كاختبار حاسم لمصداقية الأطراف المتصارعة. فما بين دعم إيران لفصائل المقاومة، وتطبيع أنظمة عربية مع إسرائيل، تزداد القضية تفككاً وتهميشاً:
فصائل المقاومة تحولت إلى أدوات صراع إقليمي، مما يُفقدها استقلال قرارها ويحولها إلى وكلاء لصراعات أكبر.
الانقسام الفلسطيني الداخلي، بين فتح وحماس، يغذيه التدخل الإقليمي، حيث تدعم كل دولة فصيلاً على حساب وحدة الموقف الفلسطيني.
الشعوب العربية، ورغم تعاطفها الكبير مع فلسطين، تعاني من فقدان الثقة في الخطابات الرسمية سواء من طرف إيران أو الأنظمة العربية أو حتى الفصائل ذاتها.
التطبيع الرسمي العربي يضعف الموقف الفلسطيني ويعطي إسرائيل شرعية سياسية واقتصادية، مما يعزز غطرستها التوسعية.
خامساً: المواجهة الأخيرة بين إيران وإسرائيل وتحولاتها
مع بداية عام 2025، شهدنا تحولاً نوعياً في طبيعة المواجهة بين إيران وإسرائيل. فقد بدأت إسرائيل توجهاً جديداً نحو توجيه ضربات مباشرة للعمق الإيراني، سواء عبر الطائرات أو عبر الهجمات السيبرانية، ما استدعى رداً مباشراً من إيران، بشكل جعل فكرة "الخطوط الحمراء" تتآكل تدريجياً.
وتجلى هذا في المواجهة الكبرى التي اندلعت في أبريل 2025، حين شنت إسرائيل هجوماً واسعاً على منشآت عسكرية داخل إيران، فردت طهران لأول مرة بصواريخ وطائرات مسيرة تجاه أهداف في الجولان والجنوب الفلسطيني، فيما تم تفعيل الدفاعات الجوية في تل أبيب.
ورغم محدودية الأضرار، فإن الحدث شكّل نقلة في طبيعة العلاقة، بحيث باتت المواجهة مفتوحة على احتمالات غير مسبوقة. وفيما تسعى واشنطن لتقييد الحلفاء، كانت روسيا والصين تستثمران هذا التصعيد لتعزيز أوراقهما في الإقليم.
سادساً: الانسحاب السوري وتحجيم حزب الله: كسر أذرع إيران
بعد انتصار الثوار السوريين وإسقاط نظام بشار الأسد، خسرت إيران إحدى أهم قواعدها في المنطقة. فدمشق كانت شريان الدعم لحزب الله في لبنان، وممر النفوذ نحو المتوسط. ومع انهيار النظام، سحبت طهران الكثير من قواتها، بينما تمت تصفية عدد من قادتها البارزين في ضربات إسرائيلية.
هذا الانسحاب ترافق مع تحجيم حزب الله، الذي أُجبر على إعادة انتشاره شمال الليطاني بضغط دولي وداخلي، بعد تصاعد الاحتجاجات اللبنانية ضده، واتهامه بإغراق البلاد في حروب لا طائل منها. وهو ما أدى إلى اهتزاز صورته داخلياً، وتراجع قدرته على فرض سيطرته الأمنية كما في السابق.
إسرائيل من جهتها، رأت في هذا التحول فرصة لإعادة بناء معادلات الردع، فيما تحاول إيران الحفاظ على ما تبقى من النفوذ عبر شبكات تهريب وتجنيد، لكنها باتت محاصَرة بتحديات متعددة: شعبياً وأمنياً وسياسياً.
سابعاً: السياق العربي العام... بين التهميش والتوظيف
يُعد السياق العربي هو الضحية الأكبر لهذا الصراع. فالدول العربية، إما تم استخدامها كساحات للحرب (سوريا، اليمن، لبنان، العراق)، أو تم توظيفها كأدوات اصطفاف سياسي في حرب باردة جديدة.
الدول الخليجية وجدت في إيران عدواً مشتركاً مع إسرائيل، فتقربت من الأخيرة لضمان الحماية، بينما ظلت دول كالأردن ومصر تحاول الحفاظ على توازنات دقيقة.
أما شعوب المنطقة، فهي تعاني من نتائج هذا الصراع: تهجير، فقر، تطرف، انهيار للدولة، وانقسامات مذهبية. وهو ما يجعل الصراع بين إيران وإسرائيل أشبه بحرب على جسد عربي مستباح.
ثامناً: النظرة المستقبلية وتحولات التوازن الإقليمي
المشهد الراهن للعلاقة بين إيران وإسرائيل، رغم طابعه التصادمي، لا يمكن قراءته بمعزل عن التحولات العالمية. الصراع لم يعد فقط حول السلاح النووي أو دعم جماعات مسلحة، بل بات جزءاً من إعادة تشكيل النظام الإقليمي.
في المستقبل، يُرجّح استمرار سياسة "الحافة النووية"، حيث تستخدم إيران برنامجها كورقة تفاوضية، فيما ترد إسرائيل بعمليات خاطفة دون إعلان حرب شاملة.
ثلاثة سيناريوهات محتملة:
1. التصعيد المفتوح: يتحول الصراع إلى حرب مباشرة تشمل لبنان أو إيران نفسها. هذا السيناريو خطر، لكنه وارد.
2. الاحتواء الدولي: تدخل قوى كروسيا والصين لمحاولة إعادة التوازن، خصوصاً مع تراجع الدور الأميركي.
3. إعادة الهيكلة: نظام أمني إقليمي جديد يشمل تركيا والخليج، مع توزيع مناطق نفوذ، وتهدئة نسبية.
أما بالنسبة لفلسطين، فتبقى مرهونة بقدرة الفاعلين الفلسطينيين على التحرر من التوظيفات واستعادة المبادرة.
خاتمة: نحو رؤية عربية مستقلة
المواجهة بين إيران وإسرائيل تكشف عن أزمة بنيوية في النظام العربي، الذي بات عاجزاً عن إنتاج موقف مستقل أو بناء تحالفات استراتيجية حقيقية. وإذا استمر هذا التهميش، فإن المنطقة ستظل تدور في فلك صراعات الآخرين، وتُستخدم كساحات اختبار لمشاريع لا تخدم مصالح شعوبها.
الحل لا يكمن فقط في إدانة إسرائيل أو انتقاد إيران، بل في استعادة الوعي العربي، وتكوين قوة ذاتية قادرة على فرض التوازن، وإعادة مركزية القضية الفلسطينية بعيداً عن التوظيف والاستثمار السياسي.