تعز بين سلطة القانون وحكم المليشيات: إدارة المرور نموذجاً للفشل المؤسسي
الاحد 17 أغسطس 2025 - الساعة 08:31 مساءً
مدينة تعز ليست مجرد محافظة يمنية عادية، بل هي رمز تاريخي للثقافة المدنية والسياسية، وعُرفت عبر عقود بأنها مدينة التنوير، الحركة الطلابية، والنقاش الفكري.
منذ اندلاع الحرب، برزت تعز كأحد أهم معاقل المقاومة ضد المليشيات الحوثية، مما جعلها تدفع ثمناً باهظاً من حصار، دمار، واستنزاف بشري واقتصادي.
غير أن الخطر الذي يواجهها اليوم لم يعد فقط من الحصار الحوثي المباشر، بل من انهيار مؤسسات الدولة داخلها، وتحول بعض الأجهزة إلى أنماط سلوك مليشياوي منظم.
قرار مكتب النقل:
أصدر مكتب النقل قراراً بتحديد أجرة الراكب في مدينة تعز بـ 200 ريال للمشوار الواحد، متماشياً مع انخفاض أسعار الصرف وأيضا مع تسعيرة قيمة أنبوبة الغاز20 لتر إلى 8,000 ريال .
القرار في جوهره يهدف إلى تخفيف العبء المعيشي عن المواطنين، ويُعد جزءاً من سياسات الحكومة الشرعية والبنك المركزي لإعادة الانضباط للسوق المحلي.
تعطيل القرار ورفض التطبيق:
على الرغم من وضوح القرار، رفضت فرزة "ديلوكس" تطبيقه، واستمرت بفرض أجور مضاعفة على الركاب.
حتى بعد تدخل المواطنين وإبلاغ العقيد عبدالله راجح – مدير إدارة المرور، لم يتم اتخاذ أي إجراء فعلي، ما يعكس عجزاً أو تواطؤاً من قبل الجهة المفترض أنها مسؤولة عن التنفيذ.
اللافت أن مدير مكتب النقل شوهد وهو يقوم بجمع الأموال من أصحاب البسطات، الأمر الذي يفتح الباب أمام شبهة وجود شبكات جباية غير رسمية تشارك فيها شخصيات نافذة.
الفساد كشبكة مصالح:
الأدلة تشير إلى وجود تقاسم مباشر للعوائد غير القانونية بين مندوب فرزة "ديلوكس" وبعض قيادات المرور.
هذا النموذج يوضح كيف تتحول المؤسسات الرسمية إلى أدوات جباية على حساب المواطن، على غرار ما تقوم به المليشيات في مناطق سيطرتها.
هنا يصبح الفساد منظوماً ومؤسسياً، وليس مجرد انحرافات فردية.
البعد السياسي – خدمة الحوثيين بصورة غير مباشرة:
تعطيل قرارات الحكومة المركزية وإفشال سياساتها الاقتصادية لا يمكن قراءته كظاهرة معزولة.
هذه الممارسات:
تُضعف ثقة المواطنين بالشرعية ومؤسساتها.
تخلق فوضى اقتصادية واجتماعية يستفيد منها الحوثيون.
تجعل قرارات البنك المركزي والحكومة بلا أثر واقعي، ما يخدم استراتيجية الحوثي في إظهار الدولة بمظهر العاجز.
بهذا المعنى، يصبح بعض المسؤولين المحليين في تعز شركاء موضوعيين في إضعاف جبهة الشرعية حتى لو لم يكن لهم ولاء معلن للحوثيين.
تعز كمدينة مقاومة – المفارقة المؤلمة:
تاريخياً، ارتبط اسم تعز بالحركات الوطنية وبالتحولات الديمقراطية في اليمن، وكانت دوماً مركزاً للحراك المدني والسياسي.
لذلك، فإن ما يحدث اليوم من تفريغ مؤسساتها من الداخل وتحويلها إلى أدوات فساد، يشكل مفارقة قاسية.
فبدلاً من أن تكون تعز واجهة نموذجية لدولة النظام والقانون، باتت تقدم صورة مضادة: مؤسسات رسمية تعمل بعقلية المليشيا.
البعد الاستراتيجي:
هذا الواقع يحمل خطراً مزدوجاً:
داخلياً: تعزيز ثقافة اللامبالاة والفساد بين المواطنين، وانهيار فكرة الدولة.
خارجياً: تقديم نموذج سلبي يُستخدم ضد الشرعية في الخطاب الإعلامي والسياسي للحوثيين وحلفائهم.
استمرار هذا الوضع يعني أن تعز قد تتحول من رمز للمقاومة إلى ثغرة تخترقها المليشيات من الداخل عبر الفساد والفوضى.
إن تجربة "فرزة ديلوكس" تكشف أن المسألة أكبر من أجرة باص أو مخالفة قرار إداري؛ هي في جوهرها معركة بين دولة القانون وحكم المليشيات.
إذا لم يُعالج هذا الفساد البنيوي داخل تعز، فإن الحوثيين لن يحتاجوا إلى القذائف لاقتحامها، لأن انهيار الثقة بالدولة من الداخل أخطر من أي حصار خارجي.
ويبقى السؤال الجوهري:
هل تستطيع الشرعية أن تجعل من تعز نموذجاً للدولة التي تقاوم المليشيات، أم أنها تتركها تتحول تدريجياً إلى صورة أخرى من حكم المليشيات؟