الخسارة التي لا تشبهها خسارة أخرى..
الثلاثاء 26 أغسطس 2025 - الساعة 10:11 مساءً
حينما تأخذ الدولة في التفكك والإنهيار ، فإن المجتمع ، الذي تتشكل منه هذه الدولة ، يقوم بإعادة تنظيم نفسه في حاضنات وتكوينات تعود إلى ما قبل الدولة ، وترتبط بوشائج الدم والقرابة والعشيرة ، والقبيلة ، والطائفة ، وأيضًا المصلحة التي يُعلن عن حضورها بالاستناد إلى معطى تاريخي أو فاعل مستجد .
وتكون المصلحة هي الوحيدة العابرة نسبيًا لهذه الحاضنات ، وإن كانت بطبيعتها حاضنة طارئة ،ومشكوك في قدرتها على الصمود أمام التحديات الضخمة التي تنتج عن انهيار الدولة ، ما لم تغذها إمكانيات كبيرة تتولى تأهيل المنتسبين إليها ، وتطويعهم للبقاء ضمن تكوينات يديرها "الممول" بصورة مباشرة أو غير مباشرة . ولذلك فإنه غالبًا ما يكون مصدرها خارجي بهدف بناء قوة لتحقيق أهداف استراتيجية أو مرحلية لهذا الخارج .
أما الأحزاب السياسية الوطنية ، بتراكيبها الفكرية والأيديولوجية ، فإنها تحاول أن تعيد بناء علاقات من نوع ما مع هذه الحاضنات في استجابة لحاجة منتسبيها إلى حماية من التهميش ، أو من الاجتثاث ، مع بقائها محافظة على بنائها التنظيمي والفكري في أحسن الأحوال .
ولكن مع طول فترة الانهيار ، وقسوة المنظومة الجديدة التي تتشكل بدوافع مفرغة من قيم الدولة ، فإنه يسود أعضاءها الارتباك ، والغضب ، ونفاذ الصبر ، وتقبل الشائعة ، وافتعال الخصومة الداخلية بادعاءات تبدو وكأنها أسبابٌ للبعض كي يقطع علاقته بحزبه أو بمكونه السياسي ، ويذهب إلى هذه الحاضنة أو تلك بصورة عارية ، لا يغطيها أي غموض إيجابي يسمح بتبرير القطيعة .
والحال بالنسبة لمؤسسات الدولة الوطنية ، التي لطالما جسدت الرابطة الوطنية العابرة لتكوينات ما قبل الدولة ، فإنها تتعرض للتفكيك والتكسير ، ويتم على إثرها إقامة هياكل محلية مفككة تقوم بوظيفتها وفقًا للحاجة التي يمليها الإطار المجتمعي الضيق الذي غدت تنتمي إليه.
إن البنية السياسية والاجتماعية المدنية هي أكثر من يتأثر سلبًا بالحروب وانهيار الدولة . وغالبًا ما تشكل خسارة يصعب تعويضها بسهولة .
فهي تخلي مساحة واسعة من نشاطها للبنى التقليدية ، وللمصالح الطارئة والمتحركة في أكثر من اتجاه ، والتي تنتظم في إطارها أقسام كبيرة من المجتمع . وهو ما يعني أن ضررًا من نوع عميق يكون قد أصاب المجتمع في تكوينه الذي سبق أن أخذ يتشكل مدنيًا ووطنيًا في ظل الدولة بروافع سياسية واقتصادية وثقافية وقانونية عابرة للحاضنة التقليدية .
وفي مثل هذه الظروف يصبح الانتماء للحاضنات التقليدية ، بما في ذلك المصلحة الطارئة ، أقوى من الانتماء للدولة ومؤسساتها السياسية المدنية والقانونية ، ويبدأ المجتمع يتخلى تدريجيًا عما رسخته سنوات الدوله في وعيه وشخصيته من روح المواطنة ، والسلوك المرتبط بها ، ليبدأ في تجسيد شخصية الرعوي المطيع لأعراف وتقاليد تلكم الحاضنات التقليدية ومنظومة المصالح الطارئة التي تطبق شروط الانتساب بقسوة لتعيد بناء سلوك الجماعات المرتبطة بها بعيدًا عن قيم الدولة .
وهذه من أعظم الخسارات التي لا تشبهها أي خسارة أخرى .