بدون اقتصاد حقيقي... ودور سعودي فاعل... القادم كارثي

الاثنين 08 سبتمبر 2025 - الساعة 10:05 مساءً

 

تواجه اليمن اليوم أخطر مراحلها الاقتصادية على الإطلاق، فالمشكلة لم تعد مجرد تذبذب في سعر الصرف أو فجوة في العملة الصعبة، بل تحولت إلى اقتصاد حرب متكامل تتحكم فيه شبكات تهريب ومضاربة وسوق سوداء باتت أقوى من الاقتصاد الرسمي نفسه. وفي قلب هذا المشهد تقف معضلة الرواتب كأكبر اختبار يومي لشرعية الحكومة وقدرتها على الاستمرار، حيث عجزت خلال الأشهر الأخيرة عن صرفها بانتظام، لتصبح معيشة الموظفين مرهونة بموارد هشة وحسابات سياسية معقدة.

 

وأمام هذا الواقع المأزوم، تبرز الحاجة إلى إجماع سياسي حقيقي تتجاوز فيه القوى المختلفة صراعاتها البينية لتوحيد الصف خلف إصلاحات الحكومة بقيادة الأستاذ سالم صالح بن بريك. يلي ذلك الدور المحوري للمملكة العربية السعودية، التي تمثل حجر الأساس لأي إصلاح اقتصادي جاد، إذ لا يمكن للحكومة أن تواجه اقتصاد الحرب أو أزمة الرواتب دون دعم سياسي ومالي وتنموي سعودي، يحوّل المساعدات من مجرد مسكنات مؤقتة إلى شراكة استراتيجية مستدامة تعيد بناء الاقتصاد وتسترجع ثقة المواطن.

 

لتوضيح ذلك دعوني اضع النقاط على الحروف كما يلي:

 

أولاً: رواتب الموظفين بين السياسة والاقتصاد

تمثل فاتورة الرواتب في مناطق الحكومة الشرعية واحداً من أكثر الملفات حساسة، فهي ليست مجرد استحقاق لموظفين، بل مؤشر على قدرة الدولة على الاستمرار.

 

خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، عجزت الحكومة عن صرف المرتبات بصورة منتظمة، فيما تعتمد آلية التمويل على خليط هش من موارد محلية محدودة، ودعم خارجي متقطع، وأحياناً سحب مكشوف من البنوك.

هذه الآلية الهشة تعكس معضلة مزدوجة: صرف الرواتب يضغط على سعر الصرف ويغذي التضخم، بينما التوقف عنها يعطل الخدمات ويهدد بانهيار الجهاز الإداري.

 

ثانياً: فاتورة الاستيراد وفجوة العملة الصعبة

حصلنا على بيانات من مصدر رسمي إلى أن فاتورة الاستيراد السنوية تتجاوز 12 مليار دولار، مقابل موارد عملة صعبة لا تتعدى 5 مليارات دولار فقط، معظمها من صادرات نفطية محدودة وتحويلات المغتربين.

هذه الفجوة البالغة 7 مليارات دولار سنوياً تفسر شح الدولار في السوق، توسع السوق السوداء، ولجوء المستوردين إلى قنوات غير رسمية مكلفة.

 

ثالثاً: عجائب الأثر الاقتصادي للفجوة

على سعر الصرف: كل دولار مفقود يزيد الضغط على الريال.

 

على الأسعار: ارتفاع تكاليف الاستيراد ينعكس مباشرة على أسعار السلع الأساسية.

على البنوك: ضعف التغطية يقوض الثقة المصرفية.

على المواطن: النتيجة تآكل القدرة الشرائية وارتفاع معدلات الفقر.

 

رابعاً: تناقضات الإصلاحات الحالية

بينما تُعلن الحكومة عن ضبط سعر الصرف، تعجز عن صرف المرتبات.

وتفرض قيوداً على الواردات بحجة حماية العملة، لكنها بذلك تفقد إيرادات جمركية وضريبية أساسية.

أما الإصلاحات النقدية المعلنة، فهي تظل شكلية أمام واقع استنزاف المخزون الاستراتيجي من السلع الأساسية.

 

خامساً: السيناريوهات المستقبلية

الاستمرار في صرف الرواتب بموارد هشة = تضخم وانهيار سعر الصرف.

التوقف عن صرفها = انهيار الخدمات وتفكك الجهاز الإداري.

تراجع الاستيراد = أزمة معيشية خانقة ومجاعة مقنّعة.

 

سادساً: الموقف الحرج للحكومة وخيارات التجاوز

تجد الحكومة نفسها اليوم في موقف حرج بين ضغط الاستحقاقات الداخلية وعجز الموارد الخارجية، فهي مطالبة بدفع رواتب عشرات الآلاف من الموظفين، وضمان استقرار العملة والأسعار، في وقت لا تملك فيه سوى جزء يسير من موارد العملة الصعبة.

ولكي تتمكن من تجاوز هذا الظرف، فإن أمامها ثلاثة مسارات متوازية:

 

1. المسار العاجل:

١- تحقيق التكامل التام بين السياسة النقدية والمالية بين جميع المناطق.

٢- التفاوض مع البنوك المحلية على آلية أكثر أماناً لتمويل الرواتب بعيداً عن السحب المكشوف.

٣- إطلاق مبادرة عاجلة مع المجتمع الدولي لتوفير غطاء نقدي مؤقت للواردات الأساسية.

 

2. المسار المتوسط:

١- تحسين تحصيل الإيرادات المحلية (جمارك، ضرائب، رسوم سيادية) عبر قنوات رسمية شفافة.

٢- ضبط المنافذ البرية والبحرية ومنع التهريب الذي يستنزف العملة والموارد.

٣- إعادة هيكلة الدعم الخارجي بحيث يتحول من منح قصيرة الأجل إلى برامج تنمية موجهة.

 

3. المسار الاستراتيجي:

١- إعداد خطة إصلاح اقتصادية واضحة ومدعومة سياسيا من الأشقاء في المملكة العربية السعودية، بحيث تكون إطار مرجعي لإعادة بناء الاقتصاد وضمان استقرار مستدام.

٢- إعادة تشغيل الموارد الإنتاجية (النفط والغاز) وربطها بآلية توريد شفافة إلى البنك المركزي.

٣- الاستثمار في الزراعة والصناعة الخفيفة لتقليل فاتورة الاستيراد تدريجياً.

٤- بناء ثقة داخلية وخارجية عبر إصلاحات اقتصادية جذرية وإدارة رشيدة للموارد.

٥- الرقمنة المالية: تبني نظام معلومات مالي موحد يربط بين كافة المستويات الحكومية (مركزية، محلية، مؤسسات عامة)، بما يضمن وجود قاعدة بيانات مالية واقتصادية شاملة للدولة، تساعد على:

- ضبط الإيرادات والنفقات.

- منع الفساد والازدواجية في الصرف.

- توفير بيانات دقيقة لصانعي القرار.

- تعزيز الشفافية أمام المجتمع الدولي لجذب الدعم والاستثمارات.

 

سابعاً: دور المملكة العربية السعودية 

لا يمكن لأي قراءة واقعية للمشهد الاقتصادي في اليمن أن تتجاوز الدور المحوري للمملكة العربية السعودية، التي شكلت خلال السنوات الماضية خط الدفاع الأول عن استقرار العملة والأسواق من خلال الودائع النقدية في البنك المركزي اليمني بعدن، والمِنح النفطية التي غطّت جزء كبير من احتياجات الكهرباء والمشتقات، تمكنت الحكومة اليمنية من تجنب انهيارات متتالية كانت ستقود البلاد إلى مجاعة واسعة النطاق.

 

لكن هذا الدور السعودي، رغم أهميته البالغة، ليس بديلاً عن الإصلاحات الداخلية. فالدعم الخارجي مهما بلغ حجمه لن يحقق الاستدامة إذا ظل الاقتصاد اليمني أسير الريع والفساد والاعتماد المفرط على الاستيراد.

 

علينا ان نمنح الدور السعودي قادم الأيام أدوار كبيره والمطلوب للفترة القادمة:

1. الدعم السياسي: توفير غطاء سياسي قوي لأي خطة إصلاح اقتصادي، بما يضمن الالتزام الحكومي ويمنع تدخلات الأطراف المتصارعة في مسار الإصلاح.

 

2. الدعم المالي: مواصلة ضخ ودائع جديدة لدعم الاحتياطيات الأجنبية، ولكن في إطار خطة متفق عليها، تُلزم الحكومة باستخدامها حصريا للاستقرار النقدي وتمويل الواردات الأساسية.

 

3. الدعم الفني والتقني: المساعدة في بناء نظام معلومات مالي وإداري حديث يربط بين مؤسسات الدولة، على غرار الأنظمة المطبقة في دول مجلس التعاون الخليجي.

 

4. الدعم التنموي: تحويل الدعم من مجرد مساعدات طارئة أو منح نفطية إلى استثمارات استراتيجية في الطاقة، البنية التحتية، الزراعة والصناعة، بما يخلق فرص عمل ويقلل الاعتماد على الاستيراد.

 

5. الرقابة المشتركة: وضع آلية متابعة سعودية – يمنية تضمن شفافية إدارة الودائع والمِنح، وتمنع تسربها إلى قنوات الفساد أو استخدامها في غير الغرض المخصص لها.

 

المملكة العربية السعودية ليست مجرد داعم مالي، بل شريك استراتيجي في استقرار اليمن، وبقدر ما تُظهر الحكومة اليمنية جدية في الإصلاح، بقدر ما سيكون الدعم السعودي أوسع وأكثر استدامة، إن العلاقة الاقتصادية بين البلدين يجب أن ينتقل إلى مرحلة الشراكة التنموية الاستراتيجية طويلة الأمد.

 

إن اليمن يقف أمام مفترق طرق خطير. بلا اقتصاد إنتاجي حقيقي (نفط، غاز، زراعة، صناعة) تؤدي الى عجز في إدارة مالية ونقدية ، سيظل أي تحسن في سعر الصرف مجرد سراب مؤقت.

 

إن مواجهة فجوة الـ7 مليارات دولار تتطلب إصلاحات جذرية، وشراكات دولية مستدامة، وتوحيد القرار السياسي والاقتصادي.

 

وإلا فإن القادم لن يكون مجرد أسوأ... بل قد يكون كارثياً على الدولة والمجتمع معاً.

 

111111111111111111111


جميع الحقوق محفوظة لدى موقع الرصيف برس