63 عاماً... والجمهورية نهر ضوء لا ينضب
الجمعه 26 سبتمبر 2025 - الساعة 12:26 صباحاً
لأنها ميلاد الفجر من رحم الظلام... ولأنها وصية الدماء وأمانة الأحرار، تظل لنا عهداً لا يُخان، وشعلة لا تنطفئ.
لقد مثلت ثورة 26 سبتمبر موعد الخلاص، حين قرر الشعب أن يختار قدره بنفسه: الحرية والكرامة والجمهورية.
تلك اللحظة في التاريخ لا تُقاس بالزمن، بل بوهجها في الذاكرة وخلودها في الضمير...
ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، التي أشرقت كفجرٍ مجيد، وأعلنت أن اليمن قد قرر أن ينهض، وأن يخلع عن كاهله ركام القرون، وأن يولد من جديد حرًّا عزيزًا كريمًا. عبر عنها البردوني فقال:
فولىَّ زمانٌ كوجه البغي
وجاء زمانٌ كقلب النبي.
✦ يكفي هذه الثورة فخرًا أنها أعلنت القطيعة مع هيمنة البغي و الظلم و التجهيل ، وكسرت أغلال الإمامة، وأعلنت ميلاد الجمهورية ، خياراً أزلياً لا رجعة عنه .
استجابةً للوعي الإنساني في أعماق ملايين اليمنيين.
الجمهورية التي مثلت ميلاداً للضوء، وصرخةً ضد العبودية، وإصراراً على أن الكرامة أثمن من الحياة ذاتها.
* وليس في التاريخ نصٌ كامل، ولا في مسيرة أي أمة صفوةٌ بلا شائبة.
بل لكل حراكٍ ثوري أخطاؤه وجراحه، ولكل قفزةٍ نحو التحرر ثمنٌ دفعته الشعوب بدماءٍ وصبر.
لكن من رحم ذلك الصراع خرج معنىً جديداً: شعبٌ أعلن ثورته، و غرد في سرب الحياة متناغماً مع إيقاع الكون .
✦ وهنا نتوقف في لحظة شكر لا تقديس مع الزعيم العربي الملهم ، جمال عبدالناصر و دوره الرافد ، في أن تتجذر هذه الثورة وتشتد عزيمتها ؛ فقد كانت خطاباته امتدادًا لفِعله الثوري، وكانت مواقفه دعمًا لا يعرف الحدود، إيمانًا بحق اليمنيين في الحياة والحرية والعدالة.
تلك التطلعات الأممية التي حملها ناصر جعلت من سبتمبر اليمن جزءًا من ملحمة كبرى للتحرر العربي، ولذا بقي اسمه محفورًا في وجدان اليمنيين كما بقيت ثورتهم.
✦ أما ما يحدث اليوم في بلادنا، وبعد ثلاثة وستين عامًا من ميلاد الفجر، نقف أمام سلطةٍ انقلابية، هي الوجه القاتم للانتكاسة والعودة إلى ما قبل التاريخ. سلطة أعادت استحضار الكهنوت البغيض، وعبثت بدماء الشهداء، وألقت بالوطن في أتون التجارب الأقسى في العيش الإنساني: انقلاب على أهداف الثورة، إلغاء للدستور، دفنٌ للقانون، وإطفاء لمشاعل الأمل.
خطاب يؤجج الضغائن و يشعل الاحقاد ، انتكاسة بائسة ، تمثلت في صورة مشوّهة للثورة ومشروعها الانهزامي القائم على الشعارات التي تروج بطولاتٍ زائفةً وحرياتٍ بائسة.
زمنٌ عجيب ، انقلب فيه الحوار إلى سكاكين، والقلوب إلى زنازن. ومع ذلك، تبقى العظمة( أن تظل وفيًا لوطنك حين ينهار كل شيء، كما قال ديغول).
✦
إن سلطة الظلام تدرك أن مجرد الاحتفاء بثورة ٢٦ سبتمبر يهدد وجودها ، ولذلك جعلت الفرح بها جريمة لا تُغتفر، والولاء للجمهورية ذنبًا يستحق العذاب والعقاب.
سلطةٌ جريئةٌ ، يختل توازنها لمجرد ان يخرج الشعب ، حاملاً رايات الثورة ، مبتهجاً بالجمهوريه و اهدافها ، وكأنهم يتوهمون أن نهر الحياة الدافق يمكن أن يعود إلى الوراء، أو أن الأرض يمكن أن تتوقَف عن الدوران... فالشعب الذي صنع ثورة ٢٦ سبتمبر ، يدرك ان مفهوم الجمهورية و نقيضها ، هو الصراع بين الحياة و الموت و لاشي أدق من هذا الاختزال..
* رحم الله فيلسوف الثورة وشاعرها الفذّ محمد محمود الزبيري إذ قال:
لن يبرح الطغيان ذئبًا ضاريًا
مادام يعرف أنكم أغنامُ
فتكلموا كيما يصدق أنكم
بشرٌ ويشعر أنه ظَلاَّمُ
وتحركوا كي لا يظن بأنكم
موتى ويحسب أنكم أصنامُ.
✦ الحرية ليست هبةً تُمنح، بل مسؤولية تتطلب مثابرةً وشجاعةً ونكرانًا للذات، حتى تتحقق الأهداف وتبلغ الغايات.
✦ ينبغي أن نجعل من ذكرى ٢٦ سبتمبر مدرسة عملٍ ونقاء ضمير:
نُعلّم أبناءنا معنى المواطنة لا العصبوية ، و التشبث بالحياة لا الاحتفاء بالموت.
نُكرّس العلم والوعي بدل الخرافة والتناحر.
و نمجد الأهداف العظيمة لا نقدس الصنمية و اجترار صراعات الطوائف والعصور.
نكرم تضحيات الشهداء بصون الحقوق الإنسانية وحريات الناس.
نفكر في المستقبل بعقلٍ بنّاء يسهم في رفعة الوطن وازدهاره.
✦ إن الثورة لم تكن خاتمة الحلم، بل بدايته.
لم تكن إنجازًا مؤمَّنًا بذاته، بل عهدًا يوميًا يتجدد بالعمل والإرادة. فالتاريخ لا يكتبه المتقاعسون، بل أولئك الذين يحرسون المكتسبات ويضيفون إليها.
✦ فلتبقَ الجمهورية في وجداننا عهدًا سرمدياً وشعلةً لا تنطفئ ، و خيارًا سياسيًا لا يُساوَم عليه، بل قدراً تاريخياً لا رجعة عنه.
ثورة ال٢٦ من سبتمبر ، هي ثورة للسلام، وللتعايش، وللمحبة، وللديمقراطية. هي عهد الإنجاز والتضحيات، وبوابة المستقبل التي لن تُغلق مهما حاولت قوى الظلام.
فلنرفع أصواتنا كما رفعها أبطال سبتمبر الأوائل، ولنعلن لشعبنا وللعالم أن الجمهورية قدرنا الأبدي، وأننا على درب الشهداء ماضون، وعلى خطى سبتمبر ثابتون، حتى نستعيد صباحاً جديداً لليمن، صباح الحرية والعدل
* انهضوا كما لو أن الأرض لا تُزهر إلا بخطواتكم، وكأن السماء لا تفتح أبوابها إلا لأحلامكم.
انهضوا، فالتاريخ لا يكتب قصائدَه بالحياد، بل بأيدي الذين يُخاطرون.
انهضوا، فإنهم لا يرونكم حين تركعون، بل حين تقفون شامخين، حامليْن رايةً لا تنكسر، وصوتًا لا يخبو، وإرادةً لا تُشترى.
✦ لنعلن أن سبتمبر ليس ذكرى في تقويم السنين ، بل نهرٌ جارٍ في عروقنا، ووميضٌ في حدقاتنا، وعهدٌ في أعناقنا.
ولنكن جميعًا، كما كان رجالنا ، أبطالًا في زمنٍ يتطلب البطولة، عشّاقًا للجمهورية كما يُعشق الفجر بعد ليلٍ طويل.
✦ نحن أبناء هذا الضوء الذي لا ينطفئ...
وسنظل أوفى لثورته، أشدّ عشقًا لجمهوريته، وأعمق إيمانًا بأن الغد لنا، وأن الفجر سيشرق من جديد، مهما أثقل الظلام خطاه.