اقتصاد الفوضى واستعادة الدولة اليمنية

الجمعه 03 أكتوبر 2025 - الساعة 10:09 مساءً

 

شهدت المالية العامة في اليمن تحولًا جوهريًا منذ اندلاع الحرب عام 2015، إذ فقدت دورها التقليدي كأداة للتنمية والتوزيع العادل للموارد لخدمة المواطن، وأصبحت أداة للصراع السياسي والعسكري بيد الأطراف المتنازعة لضمان استمرار النفوذ والسيطرة والتحكم بالموارد المالية.

 

ولم تعد الجغرافيا وحدها هي التي يسيطرون عليها، بل أصبح المال العام تتوزعه السلطات الموازية، فهي تموّل نفسها خارج القانون وتتصرف بالإيرادات العامة بوصفها غنيمة حرب لا موردًا وطنيًا مشتركًا وأداة سيادية جامعة، وباتت منقسمة ومفتّتة تُدار عبر شبكات غير رسمية خارجة عن النظام المؤسسي.

 

كانت الإيرادات العامة للدولة قبل الحرب (2014) ما يعادل 10.3 مليار دولار، معظمها من النفط والضرائب والجمارك، وكانت تغطي أكثر من 70% من النفقات الجارية للدولة، أما خلال الفترة (2020–2023)، فقد تراجعت الإيرادات الحكومية الخاضعة للسلطة المركزية إلى قرابة 800 مليون دولار.

 

وتشير تقارير البنك الدولي وصندوق النقد العربي إلى أنه يتم تداول ما بين 60 إلى 70% من الناتج المحلي خارج أوعية الدولة المالية، فيما تُظهر بعض البيانات الأممية أن التشكيلات السياسية والفصائل العسكرية (شمالًا وجنوبًا) تتصرف بسيولة تتجاوز 2.4 مليار دولار سنويًا، تشمل إيرادات حكومية وجبايات غير قانونية خارج البنك المركزي أو وزارة المالية، وتُدار عبر صناديق مغلقة، أو حسابات مجهولة، أو بنوك تحت نفوذها وسيطرتها.

 

وفي ظل امتداد الانقسام المالي إلى صلب المؤسسات المالية والنقدية، لم يؤدي انقسام البنك المركزي بين صنعاء وعدن إلى ظهور سياسات نقدية مزدوجة وإدارة عرض نقدي خاص بكل بنك منهما، ما فاقم من تدهور سعر الصرف فقط، بل أُستُخدمت مكاتب وزارة المالية محليًا ومكاتب الضرائب والجمارك كواجهات شكلية للأطراف المسيطرة عليها، تمنحها غطاءً قانونيًا لعمليات الجباية، لتذهب حصيلتها بعيدًا عن الموازنة العامة، وبهذا أصبحت المؤسسات الرسمية نفسها أداة لتكريس اقتصاد الفوضى بدلًا من أن تكون وسيلة لضبطه، وأرتبطت الموارد المحلية بشكل مباشر بتمويل النزاع.

 

في محافظات مثل مأرب وشبوة وحضرموت تُستخدم عائدات النفط والغاز كموارد ذاتية لتمويل التشكيلات المسلحة وتغطية نفقات عسكرية وأمنية بعيدًا عن البنك المركزي، أما في الموانئ اليمنية (الحديدة، عدن، المكلا، والمخا...) فقد تحولت الرسوم الجمركية والضريبية إلى مصادر دخل أساسية للفصائل، حيث تُحصَّل ملايين الدولارات شهريًا خارج الخزينة العامة، إذ تُقدَّر إيرادات المنافذ الجمركية وحدها بـ700 مليون دولار سنويًا لا تدخل إلى حسابات الدولة الرسمية، فيما يُقدر الفاقد الجمركي والضريبي وحده بما يتجاوز 1.5 مليار دولار سنويًا بسبب تعدد مراكز التحصيل، والتهريب، والإعفاءات غير الرسمية.

 

مع هذا الانقسام وتآكل قدرة المؤسسات الرسمية على التحكم بالموارد، تحوّلت أدوات الدولة المالية (الضرائب، الجمارك، التحويلات، والمساعدات) إلى أدوات انتقائية بيد أطراف الصراع تُستخدم لتغذية نفوذها، ما عزز تضخم شبكات نفوذ اقتصادية موازية تتحرك خارج القانون.

 

كما لعب الدعم الخارجي والتحويلات المالية دورًا محوريًا في تغذية هذه البنية؛ إذ تتلقى بعض الأطراف تمويلًا مباشرًا من قوى إقليمية عبر قنوات غير رسمية، فيما تشكّل تحويلات المغتربين، التي تفوق 3.5 مليارات دولار سنويًا، موردًا حيويًا يُستنزف عبر أسواق الصرف غير الرسمية، ويغذي شبكات مالية محلية مرتبطة بالاقتصاد الموازي.

 

لم يكن الانهيار المالي مجرد نتيجة للحرب وعدم قدرة الدولة على التمويل، بل نتيجة لهندسة متعمدة أعادت تعريف العلاقة بين الإيرادات والسلطة، حيث تتحول الموارد العامة من أداة وطنية إلى ريع سياسي واقتصادي في يد قوى السيطرة المتعددة (شمالًا - جنوبًا)، ما يجعلها فاعلًا ماليًا يتفوق أحيانًا على الدولة من حيث أدوات السيطرة والجباية. 

 

وهكذا لا تقف معاناة اليمنيين فقط عند حدود الفقر والحرمان، بل تتعمّق مع كل يوم يُدار فيه المال العام خارج القانون، ويُوزَّع فيه الدخل بحسب الانتماء لا على أساس الاستحقاق، وتُصاغ فيه السياسات من خارج مؤسسات الدولة.

 

يُعد هذا التحول في وظائف المالية العامة للدولة لصالح: (جباية بالقوة)، (توزيع ريعي مشبوه)، (سوق موازي يفكك الاقتصاد)، انعكاسًا لما يُسمى في الاقتصاد السياسي بـ"اقتصاد الحرب"، حيث احتكرت الجماعات والفصائل الموارد العامة لتُغذي بها بنيتها الأمنية والسياسية والزُبائنية، وأعاد إنتاج بنية اقتصادية قائمة على التمكين المالي للأطراف المسلحة، وليس على تمويل وظائف الدولة أو خدمة المواطن. وأصبح الاقتصاد اليمني أداة رئيسية لإدارة الصراع وليس ضحية له، وأعاد الفاعلون العسكريون والسياسيون هيكلته ليغدو مصدرًا مباشرًا للنفوذ والتمويل، وأصبحت الجبايات المسلحة والإيرادات خارج الموازنة والتهريب مكونات ثابتة في هندسة الاقتصاد الراهن. ويمكن تلخيص أبرز ملامح هذا الاقتصاد المشوه في:

 

1- اقتصاد موازٍ يبتلع مؤسسات الدولة.

 

2- إنفاق عام تضخمي غير منتج.

 

3- منظومة جباية مفككة وعدوانية.

 

4- دولة عاجزة عن تحصيل موارد تكفي لتغطية الحد الأدنى من وظائفها الأساسية.

 

هذا الاختلال في جوهر الوظيفة الاقتصادية للمال العام أنتج قوى اقتصادية محلية متمكنة، استهلكت ما تبقّى من موارد الدولة، وامتصت دماء الشعب لتبني بهذه الإمكانيات المالية الضخمة الخارجة عن نطاق المؤسسات الرسمية اقتصاد حرب لا اقتصاد سلام، ولم تُستخدم هذه الموارد لخدمة المجتمع وتخفيف معاناته، بل دأبت على إفقاره بالجبايات غير القانونية، والرسوم المفروضة على الخدمات الأساسية، والاحتكار المنهجي للأسواق الحيوية.

وبذلك تحوّلت فصائل مسلحة ونخب محلية إلى "طبقة ريعية جديدة" تقتات على الفوضى، وأمتلكت القدرة على إدامة الحرب عبر الموارد الذاتية، وترى في توحيد الأوعية الإيرادية أو إعادة الاعتبار للبنك المركزي تهديدًا مباشرًا لسلطتها.

 

كما أفضى هذا التمكين المالي إلى تحويل الصراع إلى نموذج دائم، حيث أصبح الاقتصاد ذاته يمول استمرار الحرب لا حلّها.

 

لعل أخطر ما في الأمر أن هذه البنية المنتفعة من الوضع القائم لم تعد مجرد حالة مؤقتة، بل أضحت نظامًا مستقراً ويصعب تفكيكه، ويقاوم أي إصلاح جاد، ويفرض شروطه على أي عملية تفاوض سياسي. فالدعم المالي المتدفق إلى الفصائل والأطراف لا يصنع اقتصادًا موازياً فقط، بل يصنع سلطة موازية، وشرعية بديلة، ويُطيل أمد الحرب، ويضمن بشكل خبيث قابليتها للاستمرار. وتمكِّن هذه البنية المالية الموازية الفاعلين من امتصاص الفوائض العامة واستثمارها كأداة للسلطة، وتمنحهم قدرة كبيرة على تعطيل أي جهود لتوحيد المالية العامة أو إعادة بناء الدولة، فهي بنية لا تكتفي بإفقار الدولة، بل تعيد إنتاج قوتها من خلال هذا الإفقار، وتحول دون تحقيق السلام من خلال استمرار اعتمادها على حالة اللا-دولة.

 

هذا الوضع لم ينشأ عشوائيًا، بل هو نتيجة منهجية "إفقار منظم" تقوم به النخب المنتفعة من استمرار الانقسام والتفكك المالي، وتستثمر هذه النخب أدوات الاقتصاد لتكريس سلطتها وتفكيك فكرة الدولة الجامعة، وفرض شروطها في أي تفاوض مستقبلي. ومثل هذه البنية المالية الموازية لا تمثل مجرد عائق أمام إعادة الإعمار، بل تشكل تهديدًا وجوديًا لفكرة الدولة، إذ تعيد إنتاج الحرب كخيار مستدام بدلًا من السلام.

 

فهل يمكن استعادة الدولة، وتحقيق سلام مستدام دون تفكيك اقتصاد الحرب وتوحيد المالية العامة؟

 

111111111111111111111


جميع الحقوق محفوظة لدى موقع الرصيف برس