فيلم الجواسيس الحوثي.. عندما يتجسس الجاسوس على نفسه!
الاحد 09 نوفمبر 2025 - الساعة 02:21 صباحاً
في مشهدٍ يعيد إنتاج العبث القديم بثوبٍ جديد، خرجت ميليشيات الحوثي لتعلن عن ما سمّته «شبكة تجسّس أمريكية–إسرائيلية–سعودية» داخل مناطق سيطرتها، في محاولة يائسة لإقناع الشارع اليمني والعالم بأنّها تخوض حربًا كونية ضروسًا ضدّ أجهزة استخبارات العالم مجتمعة. لكن المضحك – والمبكي في آنٍ واحد – أن هذا الإعلان الصاخب لم يفضح سوى ضحالة الخيال الأمني وعجز الميليشيا عن صياغة رواية يمكن أن تنطلي حتى على أنصارها الأكثر ولاءً.
حين يتحدث الحوثيون عن "شبكة تجسس عالمية" يُدار أفرادها من غرف سرّية في واشنطن وتل أبيب والرياض، فإنهم يتناسون أن العالم اليوم بات مكشوفًا للجميع في زمن الهاتف الذكي، وأن الجاسوس الحقيقي يسكن في جيب كل مواطن، ويتحرك داخل كل بيت. فهل يعقل أن أجهزة استخباراتٍ بهذا الحجم والتعقيد تحتاج إلى تجنيد بسطاء من موظفي الدولة أو مدنيين يعيشون تحت الحصار القاسي؟ إن هذا الادعاء الواسع، وهو خليط من اتهامات فضفاضة بلا عرض لأدلة مفتوحة قابلة للتحقق، لا يهدف إلا إلى صناعة عدو خيالي يُستخدم لتبرير حملات القمع والاعتقالات وإعادة شدّ القبضة الأمنية المنفلتة.
إن هذا العرض الدعائي الساذج ليس وليد الصدفة أو مجرد خطأ تكتيكي، بل يخدم أجندة متعددة الأوجه تم تصميمها بدقة على مقاس أهداف سياسية وإقليمية محددة. إنه يوفر، أولاً، تبريراً داخلياً للقمع، حيث يغدو إعلان وجود «شبكات تجسّس» بمثابة رخصة مفتوحة لممارسة الاعتقالات والاختطافات، ويسوق الإجراءات القمعية على أنها «أمن قومي» مقدس. وثانياً، يمثل أداة فعالة لتسييج الرأي العام وتحويل الانتباه ببراعة عن الفشل المليشياوي الذريع والانهيار الاقتصادي والفساد المتغوّل، عبر توجيه الأنظار نحو «عدو خارجي» مفترض، يسهل تعبئة المناصرين ضده.
يبدو أن الميليشيا قد نسيت أن غرفة العمليات التي تتحدث عنها كانت نفسها ترسل تقاريرها يوماً ما إلى الخارج. ولقد أصبحت "الجاسوسية" شماعة جاهزة تعلق عليها الميليشيا فشلها وانهيارها الأخلاقي، ليتحول كل ناشط وكل صحفي وكل أكاديمي إلى "جاسوس" بمجرد أن يختلف معهم بالرأي أو يجهر بانتقاد. وفي هذا المناخ المسموم، تتغذى الاتهامات، وتُغذي مناخ الخوف وتبرر مزيداً من الاختفاءات القسرية التي تطال الضحايا الأبرياء من الحقوقيين والمثقفين.
لكن لعلّ العدسة الأقوى التي يجب أن يُنظر من خلالها إلى هذا الفيلم هي الاقتصاد السياسي للتهديد. الحوثيون لا يصنعون رواية عبثية كهذه عبثًا؛ فالقصة، بعمقها السياسي، ليست عن شبكة تجسس، بل عن شبكة ابتزاز إقليمي. إن الإعلان يمثل رسالة مشفرة واضحة المعالم إلى الرياض مفادها: "اخضعوا لشروطنا، وادفعوا المال، وإلا فالحرب قادمة". بهذه اللغة الملتوية تُدار السياسة في عقل الميليشيا التي تتغذى على التهديد والصراع، وتعتبر الحرب شريان حياتها. وليس غريبًا أن تتزامن هذه المسرحية الاستخباراتية مع جولات مفاوضاتٍ باردة أو توتراتٍ متجددة في البحر الأحمر، حيث تُستخدم الميليشيا كورقة ضغط جاهزة للتحريك كلما احتاجت طهران إلى امتلاك أوراق تفاوض جديدة.
إذا كانت الميليشيا تبحث عن وجه الخيانة الحقيقي، فلا يجب عليها أن تفتش في بيوت المدنيين، بل في مرآتها الخاصة. ففي الحقيقة، الجاسوس الذي يخشاه اليمنيون اليوم ليس ذاك الذي يتسلل من الحدود أو يُدار من عاصمة بعيدة، بل ذلك الذي يسرق وعي الأجيال و يكمم أفواههم باسم الدين والشعارات، ويزوّر الذاكرة ويحوّل الوطن إلى سجن كبير. إن الجواسيس الحقيقيين هم أولئك الذين يُتاجرون باسم السيادة الوطنية بينما يعيشون على نفقة الأجنبي، ويعلنون ولاءهم لإيران أكثر مما يعلنون ولاءهم لليمن.
ما يسمى بـ"فيلم الجواسيس" ليس إلا فصلًا جديدًا من الهروب اليائس من الفشل الداخلي، محاولة بائسة لصرف الأنظار عن الواقع المعيشي المنهار، والفساد المتغوّل. لكن الحقيقة تبقى أقوى من الزيف؛ فالجاسوس ليس من يُتَّهم، بل من يخاف الحقيقة ويعيش على الكذب والظلام. وهذا، باختصار، ما تفعله الميليشيا التي تتجسس على شعبها باسم الوطن، وتخون الوطن باسم المقاومة.
في النهاية، يبقى السؤال: كم فيلماً آخر سيحتاج الحوثي لتمديد عمره السياسي؟ الإجابة باتت واضحة... فكلما فشل، أنتج كذبة جديدة.














