الأساليب التقليدية والدولة المدنية في اليمن ..
الثلاثاء 11 نوفمبر 2025 - الساعة 06:08 مساءً
من المفارقات أن الدكتور/رشاد العليمي ، له مؤلفاً أكاديمياً بعنوان «الأساليب التقليدية لحل النزاعات في اليمن_دراسة في التاريخ الاجتماعي» صدر في 19 مايو 2022 ، بعد أن وجد نفسه غارقاً في إدارة أزمة وطنية كبرى بذات المنهج الذي ينتمي إلى التاريخ الإجتماعي لا إلى مستقبل الدولة .
التاريخ يتحرك بينما يبدو أن السياسة في اليمن متوقفة ، ولأن لحظة اليمن الراهنة لاتحتمل المجاملة ولا المغالطات ولا الدوران حول الحقيقة ، فإن السؤال الملح هو : هل يمكن للرئيس أن يبني اليمن الحديثة بذات الأدوات التي استخدمها شيوخ القبائل لحل النزاعات قبل قرنين ؟
الإجابة ببساطة : لا .
ولذلك لم تنجح الشرعية بكل ماتملك من فرص واعتراف دولي وغطاء إقليمي ، لم تنجح في تحويل الأزمة إلى مشروع دولة .!
اليمن اليوم ليس ملفاً محلياً معزولاً ، بل جزء من ترتيب جديد يتشكل على وقع ، أمن البحر الأحمر، ونفوذ إيران ومفاوضاتها وصفقات واشنطن والرياض ومصالح أبوظبي في الموانئ وسواحل القرن الإفريقي ، بالإضافة إلى الحرب في غزة وما بعدها ، وإعادة هندسة الشرق الأوسط ككتلة إستراتجية ؛ وهذا كله يفترض أن يجعل من اليمن "نقطة إرتكاز" لا "نقطة عبور" وصاحب مصلحة لا صاحب أزمة ، بل ويمنح اليمن فرصتها لتعيد تعريف نفسها ، إما دولة ساحلية إستراتجية ، أو مجرد ساحة نفوذ للغير .
رغم ذلك ... لازالت القيادة السياسية تتعامل مع اليمن كقبيلة كبيرة تحتاج إلى إدارة خصومات_لا إلى بناء دولة .
مشكلتنا في اليمن ليست غياب الحلول ، بل في غياب الإرادة والإدارة والقيادة ، والرئيس ، أي رئيس ، لن يبني دولة وهو يدير شرعية متعددة الرؤوس ، منقسمة النفوذ ، يتلخص عملها بطاولة مفاوضات دائمة .
إن الدولة تحتاج قرار مركزي شجاع ، وجيش واحد وقوة صلبة تخضع لمؤسسة لا لفصيل ، وجهاز إستخبارات واحد وسلطة تنفذ القرارات ، لا سلطات تفاوض على كل تفصيل .
وبدون قوة صلبة وشرعية بمؤسسات مفعلة ، لاتبنى الدول ، ولا تفرض الهيبة ، ولا تستعاد شرعية ولا تتحرر العاصمة ، كما لايمكن إعادة تشكيل الوعي العام .
إن أكبر خطأ إرتكبته الشرعية ، أنها قبلت أن تحكم دون أدوات الحكم ، ولا توجد دولة في العالم إنتصرت بهذه المعادلة .!
واليمن لايمكنه النجاة إن ظل مجرد "ملف أمني" على طاولة الرياض وأبوظبي ، فالعاصمتين ليستا جمعيات خيرية بل هي دول تعمل من أجل تحقيق مصالحها وتبحثان عن إستقرار حدود وممرات وموانئ إلخ .
إذاً ..النموذج الصحيح هو "الشريك" الذي يمتلك مشروعاً ، لا صاحب الأزمة الذي ينتظر الحلول .
إن فخامة الرئيس بحاجة إلى رؤية يمنية واضحة في ملف البحر الأحمر ، وورقة تفاوض حول الموانئ والحدود والتنمية ، ومشروع دولة يجعل من وجود اليمن ضرورة ، لا عبئاً ثقيلاً على غيره ، والإقليم والعالم لايحترم إلا الدول التي تحترم نفسها .
والدولة المدنية ليست شعاراً للإستهلاك ، بل عقد إجتماعي يعيد تعريف السلطة والحقوق والواجبات ، ولا يمكن بناء الدولة بمنطق المحاصصة والترضيات وتقاسم المراكز والتوازنات المناطقية التي تشرعن للفوضى وتقوي نفوذ سلطة الأمر الواقع .
ومن مآسي اللحظة اليمنية أن الحرب تحولت إلى إقتصاد ، وأن السلام أصبح يشكل تهديداً لمصالح تجار الحروب وشبكات الفساد الواسعة في الداخل والخارج .
إن بناء الدولة المدنية يبدأ عندما يصبح التحالف المدني أقوى من أي ميليشيا ، تحالف مدني من أجل لامركزية إدارية_مواطنة متساوية_مؤسسات شفافة_نظام إنتخابي يمنع إنتاج العصبية_واقتصاد دولة يكسر هيمنة إقتصاد الحرب .
إذا لم يفعل الرئيس ذلك اليوم ، فسيفعله غيره غداً ، أو لن يفعله أحد ، لنشهد إنفراط اليمن إلى كنتونات وجزر معزولة .
وفي هذه اللحظة الحاسمة على الرئيس أن يستشعر جسامة المسؤولية الوطنية ويمتلك الجرأة ليعلن ، رقمنة المالية العامة ، وإيقاف عائدات الظل ، وضبط الموانئ والمعابر ، ودمج الإقتصاد بالبنك المركزي وكشف الذمة المالية لكبار المسؤولين ... فبدون إقتصاد دولة ، لاتوجد دولة أصلاً .
والحضور السياسي ليس ترفاً ، بل هو جزء من صناعة القوة ، واليمن بحاجة إلى رئيس يخاطب شعبه ، رئيس يمتلك رؤية يعرضها ويوضحها ويقول للناس : هذه هي الدولة التي نبنيها ، وهذه هي أدواتها ، ويرسل رسائل قوية للإقليم والعالم ، بدون ذلك يتحول الرئيس إلى رئيس بلا جمهور ، كونه قبل أن يكون "رئيساً إدارياً" بدل أن يكون "رئيساً سياسياً" فغاب صوته وغاب خطابه ، وغابت معه صورة الدولة .
الخلاصة ، اليمن تحتاج رجل دولة لا مدير نزاعات ، وإذا كان للرئيس أن يستفيد من دراساته الأكاديمية ، فالفائدة ليست في العودة إلى الأساليب التقليدية ، بل في إدراك محدوديتها ، فاليمن اليوم أمام لحظة مفصلية ، إما أن تصنع قيادتها دولة أو تصنعها القوى الإقليمية بالنيابة عنها ، والفرق بين الاحتمالين ، رئيس يمتلك الشجاعة لإتخاذ القرار .
على الرئيس أن يغادر مربع "إدارة الأزمة" نحو "بناء الدولة وصناعة المستقبل" فالتاريخ لاينتظر أحد ، واليمن تستحق قيادة لاتدير النزاع … بل تحسمه .
#يارئيس_قع_رئيس













