الإعلام الحكومي.. سلطة الكلمة ومسؤولية الدولة

السبت 15 نوفمبر 2025 - الساعة 08:06 مساءً

 

في عصرٍ أصبحت فيه المعلومة أكثر وفرة من الماء، لم تعد المشكلة في الوصول إليها، بل في من يصيغها، وكيف تُقدَّم.

تبدو هذه الحقيقة أكثر وضوحًا عندما نتحدث عن الإعلام الحكومي، ذلك الكيان الذي يقف عند تقاطعٍ دقيق بين المعلومة والموقف، بين السلطة والمصداقية، وبين الدولة والمواطن.

 

فالإعلام الحكومي، بخلاف سواه، لا يتحدث باسم مؤسسةٍ تجارية أو وسيلةٍ مستقلة، بل ينطق باسم الدولة ذاتها — بمسؤوليتها، وهيبتها، وموقفها السياسي والإداري.

وهنا تتجلى أهميته الكبرى وخطورته في الوقت ذاته: فهو المرآة التي تعكس صورة الدولة أمام مواطنيها والعالم، والوسيط الذي يُترجم سياساتها بلغةٍ إنسانية قريبة من الناس.

 

الخبر ليس حياديًا... بل فعلٌ لغويّ وسياسيّ

 

في النظريات الحديثة للاتصال، لم يعد الخبر مجرد “حدثٍ منقول”، بل بنية لغوية تصوغ الواقع وتوجه الفهم.

فكل كلمةٍ تُختار، وكل زاويةٍ تُعرض، تحمل في طياتها موقفًا ضمنيًا، وتُنتج معنى يؤثر في وعي المتلقي.

اللغة هنا ليست أداة توصيل فحسب، بل سلطة رمزية تُعيد تشكيل الرأي العام، وتمنح الحدث تفسيره الرسمي أو الوطني.

 

ولهذا، فإن الصحفي في الإعلام الحكومي لا يملك ترف الحياد بمعناه الساذج، بل هو مسؤول عن تقديم الحقيقة من داخل إطار الدولة، دون أن يفقد مهنيته أو مصداقيته.

 

إنه لا ينقل الحدث فحسب، بل يُعيد بناؤه ضمن سياق وطني يخدم المصلحة العامة، ويحافظ على اتزان الخطاب الرسمي أمام عواصف التضليل.

 

الإعلام الحكومي... بين الخطاب الوطني والثقة الاجتماعية

 

في كل دولة حديثة، الإعلام الحكومي هو جزء من منظومة الحكم الرشيد (Good Governance).

فهو لا يُقاس بعدد الأخبار التي ينشرها، بل بقدر ما يرسّخ من الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة.

الثقة، كما تقول نظريات الاتصال المجتمعي، لا تُصنع بالشعارات، بل تُبنى عبر الصدق، والوضوح، والاستمرارية في قول الحقيقة دون تزييف أو تلاعب.

 

فحين يقرأ المواطن خبرًا صادرًا عن جهة رسمية، فإنه لا يبحث عن الإثارة أو السبق، بل عن مرجعٍ موثوق يطمئنه ويفسّر له الواقع.

وعندما يجد لغةً تحترم وعيه، وصياغةً دقيقة تخلو من المبالغة، يتولد لديه إحساسٌ بالانتماء والثقة.

تلك الثقة هي رأسمال الإعلام الحكومي الحقيقي، وهي ما يمنحه شرعية التأثير في زمن الشك والضجيج.

 

الصحفي الحكومي... شريك في صناعة الرؤية

 

العمل في الإعلام الحكومي ليس وظيفة روتينية، بل مشاركة في تشكيل الوعي الجمعي للدولة.

فالصحفي الحكومي لا يمثل نفسه، بل يعكس رؤية مؤسسية وطنية؛ كل مفردةٍ يكتبها تُسهم في بناء صورة الدولة أمام العالم.

ومن هنا، فإن وعيه باللغة، ودقته في اختيار المفردات، والتزامه بالمسؤولية، تحدد معًا مدى احترافية الإعلام الرسمي وقوته.

 

إن الصحافة الحكومية الناجحة هي تلك التي تجمع بين الدقة المهنية والذكاء السياسي؛ بين الصراحة في المعلومة والحرص على المصلحة العامة.

فهي لا تُخفي الحقيقة، بل تُحسن تقديمها. ولا تُبالغ في الترويج، بل تُوازن بين الشرح والإقناع.

 

الإعلام الحكومي في زمن الشفافية والتحولات

 

لم يعد الإعلام الرسمي قادرًا على الاكتفاء بالنشرات التقليدية أو البيانات الجافة.

فالعصر الرقمي فرض عليه التحول من أحادية الصوت إلى تعددية التفاعل، ومن الخطاب الخبري إلى الخطاب التواصلي.

بات عليه أن يكون حاضرًا في الفضاء الرقمي، متفاعلًا مع الجمهور، وشفافًا في ممارساته، دون أن يفقد اتزانه أو رمزيته كلسان الدولة.

 

الإعلام الحكومي اليوم ليس مجرد ناقلٍ للقرارات، بل جزء من صناعة القرار ذاته.

إنه منصة لإدارة الرأي العام، وتفسير السياسات، ومواجهة الشائعات، وتحصين الوعي الوطني من الانجرار وراء حملات التضليل.

 

الكلمة مسؤولية وطنية

 

في نهاية المطاف، يظل جوهر الإعلام الحكومي هو الوعي؛ وعيٌ باللغة، وبالمسؤولية، وبالمصلحة الوطنية.

فكل عنوانٍ يُنشر، وكل تصريحٍ يُذاع، هو موقفٌ رسمي، لا مجرد حدثٍ إعلامي.

وحين تُكتب الكلمة بضميرٍ وصدقٍ ومهنية، تصبح أداة بناءٍ للدولة، لا وسيلة تزيينٍ لواجهتها.

 

الإعلام الحكومي، حين يُمارَس بوعيٍ ومهارة، لا يكون مجرد “صوت الدولة”، بل يصبح ضميرها العاقل، ولسانها المسؤول أمام مواطنيها والعالم.

 

▪︎ مدير الإعلام بمحافظة تعز 

111111111111111111111


جميع الحقوق محفوظة لدى موقع الرصيف برس