حديث الإخوان!

السبت 06 ديسمبر 2025 - الساعة 06:32 مساءً

 

بمناسبة النقاش حول تصنيف جماعة الإخوان، وبتأمل تجارب الجدل معهم يلاحظ المتابع ظاهرة تتشكل ببطء خلاصتها أن تنظيماً دينياً سياسياً يكاد يتحول إلى ما يشبه الطائفة. ولا أقصد الطائفة بمعناها المذهبي وإنما بمعناها الاجتماعي. 

 

ما يكرسه الإخوان في الوعي العام حولهم أنهم مجتمع ينغلق على ذاته تدريجيًا ويطور لغته ومفرداته الخاصة ومنطقه الداخلي، ويرسم حدودًا نفسية وثقافية لأتباعه تفصلهم عن محيطهم العام وتجعلهم موسوسين وغير مستعدين لمراجعة أنفسهم، ولديهم إصرار عجيب على أن كل من يخالفهم متآمر وكاره وحاقد وخطر. 

 

الإخواني لا يختلف معك في الرأي مثل أي تيار سياسي ولا يرى الاختلاف طبيعياً، لأنه يختلف معك في طريقة بناء الرأي وفي مرجعيات الاختلاف، وبالتالي يقدم لك دليلاً على الانفصال المعرفي لدى الشخصية الإخوانية كمقدمة مباشرة للانفصال الاجتماعي والسياسي، لأن قواعد الإخواني في الخلاف لا تلتقي مع القواعد العامة المشتركة التي تتفق حولها التيارات الأخرى رغم تباينها الفكري. وهذا يسري على حركات الإسلام السياسي (الشيعية) بالضرورة مع فارق أن طائفيتها فاقعة وحاضرة في الخطاب والممارسة بشكل أوضح وأعنف، والإشكالية هنا تبقى مع مبدأ تسييس الدين وتطييف المجتمعات وخنقها بمرجعيات ماضوية لا صلة لها بالعصر وهمومه وقضاياه وأولوياته.

 

للإخوان مشروع سياسي مختلف ومناهض لقواعد العمل السياسي، وما يقلق أكثر  هو طبيعة العلاقة بين خطابهم العلني وقناعاتهم الداخلية. حين نتحدث عن الدستور والمواطنة، يتحدثون بلسان دعاتهم المسيطرين على قواعد التنظيم عن أهل الحل والعقد. وحين نتحدث عن الدولة الوطنية، يتحدثون عن الخلافة والأمة. وحين نتحدث عن التعددية، يتحدثون عن الفرقة الناجية.

 

مجمل هذه الأفكار مضمرة وحاضرة بقوة في أدبياتهم المؤطرة بفكرة الحاكمية التي نقلها سيد قطب من الراديكالي الهندي أبي الأعلى المودودي، وهي أفكار مركزية وحاكمة لوعي الفرد الإخواني وتحركه وتعامله مع الآخرين، وخطورتها في مضمونها الإقصائي وإظهارها أو إخفائها حسب المقام، وهذا الازدواج الذي تظهر من خلاله الشخصية الإخوانية بخطاب عمومي أمام المخالفين وآخر مضمر وعميق ومؤسسي يتسبب في فقدان الثقة بأي عقد سياسي معهم، والتوجس من جدوى التعامل معهم بوصفهم جماعة سياسية لا أكثر، لأنهم ليسوا كذلك، بل هم جماعة دينية يحضر المقدس والعقائدي واليقيني المطلق في تصورهم لأنفسهم في موازاة المختلف عنهم.

 

والغريب أن من يدافعون عن الإخوان اليوم باعتبارهم ضحايا مؤامرة غربية، ينسون أن الغرب نفسه كان من أكرم رعاة هذا التيار لعقود وحتى الآن في بريطانيا على وجه التحديد. وما نشهده اليوم من تسارع باتجاه تصنيف الإخوان كجماعة متطرفة ليس مؤامرة بقدر ما يمثل نتيجة طبيعية لتراكم إخفاقات الإخوان في الانتقال إلى مرحلة سياسية بوجه واحد وعلني والقبول بقواعد السياسة بدون مضمرات تنظيمية وفكرية معادية للتعدد والحرية. فعندما يتحزب الإخوان ويلجون مرحلة بناء التنظيمات والأدوات الحزبية العلنية تبقى لديهم حلقة تنظيمية أخرى مغلقة وسرية غير تلك الأداة الظاهرة، فأحزابهم المعلنة أذرع سياسية وقفازات للعب في الميدان، بينما الجماعة ترسم وتخطط وتتابع من برجها الذي يتابع مسار بشارات قرب الوصول إلى استعادة زمن الخلافة.

 

هكذا يواجه الإخوان باستمرار انكشاف الفجوة بين الممارسة العلنية والإرث الإيديولوجي الثقيل والمناهض أساساً للانخراط في السياسة بدون اعتبارها رجساً لا بد من اقترافه إلى حين، وهذا الخلل ينكشف سريعا ويرهق التنظيم كما يرهق المجتمعات التي جربت التمكين الإخواني أو عاشت في ظل صعوده.

 

يتخفى أكاديميون متعاطفون مع الإخوان وراء التحليلات التي تتصنع الحكمة ويرون أن استهداف الإخوان بالتصنيف نابع من صعود اليمين المتطرف في الغرب، وفي الواقع بدلا من ذلك ليس المطلوب من الإخوان تملق الغرب ولا كسب ود اليمين الصاعد في البرلمانات الأوروبية، والأولى أن يتم حث الإخوان على توطين حضورهم في المجتمعات الإسلامية بعيداً عن الازدواج والباطنية، وأن يتخلوا عن كل سلوك واعتقاد يجعل منهم طائفة أو كتلة تتربص بالدولة لتحل محلها وتتربص بالمجتمع لتنسف تعدده وسلمه الأهلي وثراء خياراته الفكرية والسياسية. باختصار على الإخوان التخلي عن النزعة الشمولية التي يحلمون بإسقاطها كمخطط مسبق وجاهز لتحويل الجميع إلى نسخ متشابهة من الخاضعين لمبدأ السمع والطاعة.

 

ولعل النكبات التي أوقع التنظيم الإخواني نفسه فيها في أكثر من بلد، تضاف إلى الضغوط المستجدة لتمثل فرصة ذهبية لمراجعة حقيقية وجادة وصادقة، وليس من ذلك النوع من المراجعات المخادعة التي تحث على ابتكار أشكال خداع جديدة لمواصلة النهج التقليدي للتنظيم بكل عدته ومقولاته التي تضعه في عداء مع الجميع حتى لو وزع قادته ودعاته الابتسامات يمينا وشمالا. 

 

وبالمناسبة ما ينطبق على الإخوان بشأن معضلة الازدواجية في مخاطبة المجتمعات والفشل في مقاربة أولويات الناس يسري كذلك على بقية القوى السياسية التي لم تفلح كثيرا في تقديم الجديد والحيوي والحاسم في تغيير الواقع البائس الذي يحاصر الجميع في منطقتنا العربية على امتداد الخريطة.

وعلى القوى المحسوبة على التيار العلماني أن تفتش عن اختلالاتها البنيوية التي تحنط أداءها، فهي وإن كانت متحررة من إضمار مشروعات وطموحات عقائدية باطنية إقصائية كما هو حال الإخوان لا تخلو بدورها من إشكاليات تعيقها عن التواصل بخطاب جديد يقنع الأجيال التي لم تعد مستعدة لتبرير الإخفاقات المريرة لمجرد الولاء لتاريخ هذا الحزب أو ذلك التيار، لأن العراقة والشعارات والذكريات الحزبية لا تسمن ولا تغني ولا تؤسس مشاريع فاعلة تسعد المجتمعات وتحل معضلاتها وتخفف معاناتها وتقلل المخاطر وعدم الشعور بالأمان والثقة بالحاضر والمستقبل.

 

 وما يجب مكافحته في الوجدان والضمير والسياسة هو الكف عن التعصب الأعمى للحركات التي تكرس طقوس السرية أو تمارس الانغلاق، وهذا النهج وإن كان يمارس بشكل فاقع من طرف الإخوان إلا أنه ليس نهجهم وحدهم، فهذا نهج كل جماعة أو تيار أو حزب يظن أنه وحده من يملك الحقيقة كاملة. إذ لا وجود لحقيقة مطلقة يملكها طرف واحد، يوجد في السياسة الفعل الإيجابي الذي يخدم المواطن الحديث ويمنحه الشعور بالولاء والانتماء لوطن لا لجماعة.

111111111111111111111


جميع الحقوق محفوظة لدى موقع الرصيف برس