الجنوب اليمني... من الغبن الوحدوي إلى الانزياح السياسي
الاحد 07 ديسمبر 2025 - الساعة 11:04 مساءً
في شوارع عدن والمكلا ، يرفع علم الجنوب في مشهد يلخص اليوم تحولاً جوهرياً طال انتظاره في نظر كثير من الجنوبيين. هذا المشهد، الذي تقف وراءه سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي بدعم إماراتي مباشر وفاعل، ليس وليد لحظة عابرة أو نتاج أزمة 2014/ 2015 فحسب، بل هو التعبير الأكثر وضوحاً عن تراكمات غبن سياسي تاريخي يمتد لعقود من الزمن، عبثت به السلطة الحاكمة في صنعاء على حساب فكرة الدولة المنشودة في اليمن لا سيما مع قيام دولة الوحدة اليمنية في 22 من مايو 1990م.
الجذور الأولى لما يجري اليوم في الجنوب تعود إلى ما يُعتبر في الوعي الجمعي الجنوبي "الجرح التأسيسي الأول: حرب صيف 1994. تلك الحرب التي لم تقتصر على مجرد إقصاء الحزب الاشتراكي اليمني من موقع المشاركة في السلطة، بل تجاوزت ذلك إلى اعتداء صريح ومتواصل على الجنوب وتاريخه السياسي والثقافي، وخصوصاً إرث جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية التي تشكلت بعد الاستقلال الوطني، وكأن الحرب كانت تهدف إلى محو ذاكرة سياسية لشعب بأكمله. بمعنى آخر الحرب لم تتوقف عند مسألة إقصاء الحزب الاشتراكي اليمني فقط بل استهدفت الجنوب كشريك في دولة الوحدة اليمنية.
لم يكن ماحدث للجنوب بعيداً عن دلالة الشعار الذي رفعه تحالف الرئيس صالح ضد القيادات الجنوبية في حرب صيف 94، وهو "محاربة قوى الردة والانفصال"، فمصطلح "الردة" يحمل حمولة عقائدية دينية ثقيلة في الوعي الإسلامي، فهو يعني الخروج من الدين والكفر بالله، ورفع مثل هذا الشعار كان تحشيداً عقائدياً وليس سياسياً محضاً، حوّل الصراع السياسي على السلطة والشراكة إلى حرب دينية تبيح الدماء وتجعل المصادرة السياسية واجباً دينياً، مما عمَّق من جرح الجنوبيين وجعل من الصعب تصوُّر مصالحة حقيقية لاحقاً.
لقد خلقت الحرب "مزاجاً عاماً وغبناً سياسياً" تراكم ككرة الثلج، حيث شعر الجنوبي بأنه مواطن من الدرجة الثانية في وطنه الموحد. وعلى الرغم من أن الحزب الاشتراكي اليمني، الشريك الأصلي في الوحدة والخاسر الأكبر من الحرب، حذر بشكل متكرر من العواقب الوخيمة لسياسات التهميش والإقصاء في الجنوب، وتمسك بشعار إصلاح مسار الوحدة اليمنية لإنقاذ الكيان السياسي الوطني ككل، إلا أن نظام صالح وتحالفه السياسي ظل يرفض أي دعوة لإعادة النظر في "المعادلة الجديدة" التي فرضتها حقائق القوة العسكرية في حرب صيف 94. كان الرفض يعبر عن قناعة لدى النخبة الحاكمة في صنعاء بأن الجنوب قد حُسم أمره نهائياً وأن الوحدة عُمِّدَت بالدم على حد وصف الرئيس صالح، وهذا مكَّن سلطة الرئيس صالح المنتصرة في حرب صيف 94 من ابتلاع دولة الوحدة اليمنية المعلن عنها في 22 من مايو 1990.
بناءً على ذلك ، انفجر حراك سلمي جنوبي بدأ في 2007 تحت شعار "الحراك الجنوبي السلمي" الذي طالب بالحقوق، ثم تطورت شعاراته نحو المطالبة بالانفصال بعد أن رُفِضَ الاستماع لصوت إصلاح مسار الوحدة اليمنية القادم من داخل مؤسسة الحزب الاشتراكي اليمني، حتى جاءت ثورة 2011 التي أطاحت بصالح لتعطي آمالاً جديدة في إصلاح البيت اليمني من داخل معادلة الوحدة اليمنية.
بدوره، ساهم مؤتمر الحوار الوطني (2013-2014) في معالجة القضية الجنوبية عن طريق تحويل اليمن إلى دولة اتحادية. صحيح أن تيار فك الارتباط ظل معترضاً على مخرجات الحوار الوطني، إلا أن الضربة القاضية للمشروع الوحدوي، جاءت مع انقلاب مليشيات الحركة الحوثية في سبتمبر 2014، وسيطرتها على صنعاء، واجتياحها مدينة عدن في مارس 2015، مما أجبر الرئيس عبدربه منصور هادي، على الفرار من صنعاء الى عدن ومن ثم إلى الرياض.
هذا المشهد، الذي حوَّل العاصمة صنعاء إلى سلطة مليشيات مذهبية جهوية، عزَّز لدى قطاع واسع جداً من الجنوبيين استحالة العيش في ظل "وحدة" مع طرف يعتمد منطق السيطرة بالقوة وينفي الآخر ويرفض الاعتراف بشرعية رئيس جنوبي منتخب من قبل الشعب اليمني. لقد رأى الجنوبيون في الحوثي امتداداً لنفس عقلية الهيمنة الشمالية، وإن كان ذلك بغطاء مذهبي مختلف.
مع دخول دولة الإمارات العربية المتحدة فيما يُسَمَّى التحالف العربي لاستعادة الشرعية، وتحولها إلى لاعب رئيسي في جنوب اليمن، وجدت في المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي تشكل في مايو 2017، حليفاً طبيعياً يحمل رؤية سياسية تناقض مشروع الحوثي وترفض حزب الإصلاح، ويمثل في نفس الوقت تياراً جنوبياً قوياً يمكن الاعتماد عليه لتحقيق أمنها الاستراتيجي.
الدعم الإماراتي الذي شق طريقه بعيداً عن الرقابة السعوديه مكَّن المجلس الانتقالي من ترسيخ سيطرته على عدن ومعظم محافظات الجنوب، ومؤخراً على حضرموت والمهرة، وهذا يعني السيطرة على السواحل المطلة على بحر العرب، وهي مناطق ذات أهمية جيوستراتيجية واقتصادية بالغة الأهمية. وبالنظر إلى هذه المعطيات السياسية والعسكرية الراهنة، حيث يسيطر المجلس الانتقالي بدعم إماراتي على الأرض الجنوبية، وتتلاشى سلطة الحكومة المعترف بها دولياً في الجنوب، وفي المقابل يتمترس الحوثيون في الشمال مع وجود قوات محسوبة على معسكر الشرعية في مأرب وتعز والمخا، وجميعها مناطق شمالية، فإن السيناريو الأكثر حدوثاً في المستقبل هو استمرار الانزياح السياسي الجنوبي نحو الانفصال الكامل، في ظل دعم إماراتي وتردد سعودي.
مع الأحجام الدولي في دعم نموذج الدولة المركزية في اليمن تثار الأسئلة المطروحة: هل مع استمرار الانزياح الجنوبي عملياً سيتم فصل الجنوب نهائياً عن معركة الشمال؟ أقصد إخراج الجنوب من معركة المواجهة العسكرية مع الحركة الحوثية، ومن ثم التعويل فقط على قوات الجيش في تعز ومأرب والمخا؟ وماذا عن الموقف السعودي مما يجري؟
التحليل يشير إلى الفصل التدريجي للجنوب عن المعركة الوطنية في الشمال، ليس بمعنى الحياد التام بل بتحول في أولويات الصراع. للمجلس الانتقالي، على أساس ترسيخ كيانه السياسي في الجنوب، محوِّلاً المواجهة مع الحوثيين من أولوية عسكرية إلى قضية حدودية وأمنية، وهذا يصب في مصلحة الحركة الحوثية خصوصاً وأنها تدرك أنها لن تستطيع ابتلاع اليمن الموحد لهذا سوف تكتفي بحكم الشمال وتأمن خطر المواجهة العسكرية مع جبهة الجنوب.
بدون شك الموقف السعودي لا يخفي تناقضاته الاستراتيجية. فمن جهة، هناك تنافس خفي مع الإمارات على النفوذ في الجنوب، خاصة في المحافظات الشرقية مثل حضرموت والمهرة. وتخشى الرياض من تحول الجنوب إلى كيان مستقل قوي قد لا يصب في مصلحتها على المدى البعيد مع وجود يد طولى لدولة الإمارات فمع تقلبات السياسية وتضارب المصالح كل شي وارد، وهذا يجعلها من جهة أولى تفضل حلاً اتحادياً يحافظ على شكل الدولة الموحدة. ومن جهة أخرى، فإن السعودية، مع ضعف حكومة الشرعية المعترف بها دولياً، تريد جنوباً قوياً بما يكفي ليكون حاجزاً منيعاً أمام توسع الحوثيين والنفوذ الإيراني، وهذا يجعلها تتعامل بشكل واقعي متزايد مع المجلس الانتقالي كقوة أمر واقع دون الاصطدام معه عسكرياً. لذا فإن الموقف السعودي هو موقف مراهن حذر، يحاول التكيف مع الحقائق الجديدة دون التخلي كلياً عن أوراق الضغط، رغم أن قدرته على تغيير المسار الجنوبي تبدو محدودة في ظل الدعم الإماراتي الثابت والإرادة الجنوبية التى تؤسس للانفصال.
الجنوب الذي شعر أنه دفع ثمن الوحدة اليمنية مرتين: مرة في 1994 عندما حُرِمَ من شراكة السلطة والقرار السياسي في اليمن، ومرة في 2015 عندما طُرِدَ الرئيس الجنوبي وتعرض الجنوب لغزو من قبل مليشيات تعتبر في وعيه امتداداً للثقافة السياسية السائدة في عقلية النخب الحاكمة في الشمال، والتي ترى على وجه الخصوص ضرورة أن يَضُمَّ الجنوب إليها ولا يكون في نفس الوقت حاضراً بمشروعه الوطني، لهذا وذاك وجد كثيرا من الجنوبيين في الدعم الإماراتي والإطار المؤسسي للمجلس الانتقالي فرصة تاريخية لإعادة تشكيل هوية الجنوب ومصيره في مثل هذه الظروف المواتية.
الحقائق على الأرض تؤكد هذا التحليل: علم الجنوب يرفرف على معظم مؤسسات المحافظات الجنوبية، والقوات المدعومة إماراتياً هي المهيمنة أمنياً، والمجالس المحلية تقودها قيادات انتقالية، والمشاريع الإماراتية هي الأكثر حضوراً في إعادة إنشاء الإعمار. لقد خلقت حرب 1994 جرحاً لم يندمل، وأعطى انقلاب الحوثي الذريعة الأخلاقية والسياسية للجنوبيين لقول: "كفى". واليوم، يصوغون واقعهم الجديد بقوة السلاح والدعم الإقليمي، فيما يواجه مشروع الوحدة اليمنية، بشكله المركزي السابق وحتى الاتحادي، أخطر اختبار وجودي في تاريخه. السؤال الآن لم يعد عن إصلاح مسار الوحدة اليمنية، بل عن طبيعة العلاقة المستقبلية بين كيانين سياسيين، لكل منهما جيشه وإدارته مناصرته الإقليمية، على أرض كانت يوماً دولة واحدة.
بيت القصيد: الانزياح السياسي للجنوب أصبح عملية غير قابلة للعكس تقريباً، صحيح أنه لا يشكل إجماع لدى كل الجنوبيين إلا أنه يفرض كواقع ويتحول إلى محل ترحاب للاغلبية وسيؤدي بدون شك إلى إعادة رسم الخريطة السياسية لليمن بشكل دائم.
المعركة مع الحوثيين ستبقى مستمرة في الشمال، بينما يركز الجنوب على بناء دولته الناشئة تحت الحماية الإماراتية. هذا الواقع الجديد يضع جميع الأطراف المحلية والإقليمية والدولية أمام خيارات صعبة: إما الاعتراف بتقسيم اليمن بحكم الواقع، أو محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من خلال نموذج اتحادي يحفظ وحدة اليمن، غير أن هذا الخيار الثاني يفقد حوامله السياسية في الجنوب يوما بعد يوم.













