في البلدان الفيدرالية ، لاتصنع الفيدرالية بالنصوص بقدر ماتصنع بالممارسة ، فهي سلوك يتراكم وخبرات تبنى على الأرض قبل أن تكون مواد دستورية ..

هذا ما أكدته الرؤية التي طُرحت في مايو 2011 "الفيدرالية وضرورتها لقيام الدولة المدنية في اليمن"[مرفق] حين صاغت الفيدرالية كآلية تحقق نزعتين في آن ، نزعة الإستقلال ونزعة الوحدة ، على مبدأ المشاركة الحقيقية :

▪︎مشاركة في السلطة والثروة

▪︎مشاركة في إتخاذ القرار

▪︎مشاركة تكاملية بين الأقاليم

ومثل كل التجارب الفيدرالية في العالم_التي تختلف بإختلاف طبيعة مجتمعاتها_فإن اليمن لايمكن أن يستورد نموذجاً جاهزاً للفيدرالية ، بل يحتاج إلى صيغة تنبع من واقعه وتطلعاته وتاريخه وصراعاته وهواجسه .

إن فكرة النظام الفيدرالي كأحد الحلول لكثير من القضايا الراهنة وسبيل لبناء اليمن الجديد برؤية عصرية ، رؤية يجب أن تأخذ حقها ودراسة مميزاتها وإمكانية تطبيقها على الواقع ، دون قبولها أو رفضها لمجرد مسماها أو تأويلها على نقيض مفهومها .

فهناك من يستقون معرفتهم عن الفيدرالية من مفاهيم ايدلوجية أو عقائدية أو من الإعلام الموجه ، وكلا المصدرين يرسمان الفيدرالية كفكرة غربية خطرة تهدف إلى تقسيم اليمن ، وفي بعض الأحيان توصف الفيدرالية بمؤامرة لإنفصال الجنوب والإستئثار بخيراته بمعزل عن الدولة المركزية ، في الوقت ذاته يرى الكثير أن الفيدرالية شرط أساسي لحماية الحقوق وضمان الحريات وأنها السبيل المتاح للتقدم والرخاء .

واليوم مع تصاعد الإحتقان بين أنصار الوحدة والمطالبين بالإنفصال ، تبرز الحاجة لإعادة قراءة تلك الرؤية بعيون اللحظة الراهنة ، فالأزمة لم تعد مجرد خلاف سياسي ، بل تعبير عن تشظي الثقة بين المكونات اليمنية ، وعن غياب المشاركة الفعلية التي أعطت البعض فائض قوة ، ومنحت الغالبية فائض سخط .

المشهد اليمني يتفاقم بسبب ديناميكيات جديدة تتداخل فيها مصالح الإقليم مع تناقضات الداخل ، بالإضافة إلى شبكة معقدة من الحسابات التي ترى اليمن ساحة نفوذ أكثر منه وطناً مكتمل السيادة .

ولقد فشلت القيادة في دفع الأطراف المعنية للبحث عن خلاص لليمن خارج معادلة الوحدة التقليدية ، وفي غياب المشاركة فتح باب الهيمنة ، وضعف الدولة فتح شهية المكونات المسلحة لتتغول ، ماجعل أي نقاش حول الوحدة أو الإنفصال رهين صراعات أكبر من أصحابها ، لتستغل فيها القوى المسلحة فراغ الدولة لتكريس سلطات أمر واقع .

ووسط هذا التصادم ، يتعمّق الوهم بأن الحل يكمن في فرض الوحدة بالقوة أو فرض الإنفصال بالقوة_وهو وهم أثبت فشله تاريخياً وواقعياً .

لذلك .. فإن إعادة إحياء النقاش الفيدرالي اليوم ليس ترفاً ، بل ضرورة تنبع من صميم الأزمة ، فالوحدة بلا مشاركة تتحول إلى هيمنة ، والإنفصال بلا ضمانات يتحول إلى فوضى ، أما الفيدرالية فهي الإطار الوحيد القادر على تحويل كل هذه التناقضات إلى طاقة بناء ، بدلاً من البقاء وقوداً لحرب بلا نهاية . 

الحقيقة أن اليمن لن يخرج من نفقه المظلم إلا بصيغة تحقق ثلاثة شروط متزامنة :

1. إستقلالية حقيقية للأقاليم بلا مركز متغول .

2. وحدة سياسية مرنة تحفظ المصالح المشتركة ولا تلغي الخصوصيات .

3. مشاركة فعلية في السلطة والثروة والقرار ، تكسر منطق الغلبة وتعيد إنتاج الثقة بين مكونات المجتمع اليمني .

إن الفيدرالية ليست تنازلاً عن الوحدة ، وليست هروباً نحو الإنفصال ، بل هي الحل السياسي الواقعي الذي يوقف النزيف ويصنع توازناً جديداً في اليمن ويعيد للدولة معناها .

#الإستقلال_الوحدة_المشاركة