تعز ومأرب بين نار الجنوب وبرد الشمال: مقاربة تحليلية في تموضع النخب وإشكالية الشرعية في اليمن

الثلاثاء 16 ديسمبر 2025 - الساعة 06:44 مساءً

 

مقدمة:

يشهد اليمن منذ أكثر من عقد حالة تفكك بنيوي في مفهوم الدولة المركزية، ترافقها إعادة إنتاج مستمرة للسلطة خارج الأطر الدستورية والقانونية. وفي هذا السياق، برزت أزمة النخب بوصفها أحد العوامل الحاسمة في تعثر بناء مشروع وطني جامع، لا سيما في المناطق التي تُحسب نظريًا على معسكر الدولة والشرعية، مثل تعز ومأرب.

 

سوف نخاول في هذه إيجاد مقاربة إشكالية تموضع نخب هاتين المحافظتين في مرحلة انتقالية مفتوحة، تتسم بانسداد الأفق في الشمال الخاضع لسلطة جماعة الحوثي، مقابل ديناميات سياسية متسارعة في الجنوب. ونطرح هنا السؤال  المركزي على النحو الآتي: كيف يمكن لنخب تعز ومأرب إعادة إنتاج دورها السياسي ضمن معادلة تعترف بالواقع، دون التخلي عن المرجعية القانونية للدولة اليمنية؟

 

الإطار النظري: النخب والشرعية في سياقات الدولة الهشة

 

سنتعتمد على مقاربات نظرية في تحليل النخب السياسية (Elite Theory)، ولا سيما في سياقات الدول الهشة أو المنقسمة، حيث تتراجع الشرعية القانونية لصالح شرعيات الأمر الواقع. ووفقًا لهذا الإطار، تفقد النخب قيمتها الوظيفية عندما تعجز عن تحويل رأس مالها الرمزي (الثقافي والقانوني) إلى تأثير سياسي ملموس.

 

إن مفهوم الشرعية المركبة، الذي يفترض تداخل الشرعية القانونية مع الشرعية الواقعية الناتجة عن السيطرة الميدانية والقدرة على فرض النظام. ويُعد هذا المفهوم أداة تفسيرية مناسبة لفهم الحالة اليمنية، حيث لم تعد أي جهة تحتكر الشرعية بمستوياتها كافة.

 

مأزق النخب في تعز ومأرب: بين الانسداد الشمالي والتحول الجنوبي

 

تواجه نخب تعز ومأرب مأزقًا مزدوجًا. فمن جهة، يفرض الشمال الخاضع لسلطة الحوثيين نموذج حكم سلالي-عقائدي مغلق، يُقصي بطبيعته النخب المدنية المستقلة، ويعيد إنتاج السلطة على أساس الانتماء الأيديولوجي لا الكفاءة السياسية. هذا الواقع يحول أي رهان على الشمال إلى رهان صفري، يفتقر إلى أفق سياسي حقيقي.

 

ومن جهة أخرى، يشهد الجنوب إعادة تشكّل في بنية السلطة، تتسم بتعدد الفاعلين، وارتفاع منسوب التنظيم السياسي والعسكري. ورغم الإشكاليات المرتبطة بمستقبل الدولة ووحدتها، فإن الجنوب يمثل فضاءً مفتوحًا لإعادة التفاوض حول أشكال الحكم، وهو ما يمنحه وزنًا استراتيجيًا في أي تسوية محتملة.

 

الجنوب في الذاكرة السياسية للصراع ضد الإمامة

 

تُظهر القراءة التاريخية لمسار الصراع اليمني أن الجنوب مثّل، في أكثر من مرحلة، نقطة ارتكاز في مواجهة الإمامة وبنى الحكم التقليدية. فقد ارتبط الجنوب بمشاريع تحديث الدولة، وبناء المؤسسات، والانفتاح على أنماط حكم مدنية، مقارنة بالشمال الذي ظل أسير البنى القبلية-الدينية.

 

إن استحضار هذا البعد التاريخي لا يهدف إلى تبرير واقع سياسي راهن بقدر ما يسعى إلى تفكيك السرديات التي تختزل الجنوب في كونه عامل تفكيك للدولة، متجاهلة دوره البنيوي في مقاومة أنماط الحكم ما قبل-الدولتية.

 

بين المركز القانوني للدولة ومتطلبات الواقعية السياسية

 

تتمحور الإشكالية المركزية في الحالة اليمنية حول الفجوة بين الشرعية القانونية للدولة والواقع السياسي المتشظي. فالتمسك المجرد بالمركز القانوني، دون امتلاك أدوات فرضه، يؤدي إلى تفريغ مفهوم الدولة من مضمونه العملي. في المقابل، فإن التسليم الكامل بمنطق القوة يهدد بتكريس التفكك وإدامة الصراع.

 

يمكن القول بأن المقاربة الأكثر واقعية تكمن في تبني صيغ انتقالية مرنة، تعترف بتعدد مراكز القوة، وتسعى إلى إدماجها ضمن إطار سياسي-قانوني جديد، يحافظ على فكرة الدولة بوصفها أفقًا، لا بوصفها واقعًا مكتملًا.

 

دور النخب في إنتاج مخرج سياسي آمن

 

تتحمل نخب تعز ومأرب مسؤولية مضاعفة في هذه المرحلة، بحكم موقعها الرمزي ضمن معسكر الدولة. ويتمثل دورها في الانتقال من موقع الدفاع الخطابي إلى موقع المبادرة السياسية، عبر الانخراط في حوارات جادة مع الفاعلين على الأرض، وفي مقدمتهم الجنوب، بهدف إنتاج ترتيبات سياسية تقلل من كلفة الصراع وتمنع اكتمال مشروع الهيمنة السلالية.

 

إن البحث عن مخرج آمن لا يعني التخلي عن الثوابت الوطنية، بل إعادة تعريفها ضمن سياق تاريخي متغير، يُقدّم بقاء الكيان السياسي ومنع الانهيار الشامل على الشعارات المجردة.

 

خاتمة واستنتاجات

 

 أن أزمة نخب تعز ومأرب ليست أزمة نوايا، بل أزمة تموضع ورؤية. فالإصرار على مقاربة مثالية في سياق صراع بنيوي معقد يؤدي إلى العزلة السياسية. وفي المقابل، فإن الانفتاح المدروس على الجنوب، ضمن إطار يحفظ المرجعية القانونية للدولة، يمثل خيارًا واقعيًا لإعادة إنتاج دور هذه النخب.

 

إن مستقبل الدولة اليمنية لن يُحسم عبر الخطابات الأخلاقية وحدها، بل عبر قدرة الفاعلين، وفي مقدمتهم النخب، على التكيف مع التحولات، وإنتاج صيغ سياسية جديدة تستجيب لتعقيدات الواقع اليمني.

111111111111111111111


جميع الحقوق محفوظة لدى موقع الرصيف برس