"الانسان" : بين توحش قيم التخلف وطغيان التكنولوجيا
الثلاثاء 09 يوليو 2019 - الساعة 05:53 صباحاً
د.ياسين سعيد نعمان
مقالات للكاتب
ابحثوا عن "الانسان" في كل منتج بشري .. ذلك أن مساحته في هذا المنتج هي التي تحدد طبيعة العلاقات الاجتماعية في كل مجتمع ، ودرجة استعداده للتحضر .
المساحة التي يحتلها "الانسان" داخلنا تعكس قدرتنا على بناء قواعد ثابتة للعلاقة مع الحياة في حركتها ، كقيمة عصرية متجددة .
ولكي نستوعب حقيقة أن الحياة "قيمة عصرية" تتجدد بالعمران ، والتطور العلمي ، والاجتهاد ، وحرية التفكير والتسامح ، فإنه لا بد من توسيع مساحة "الانسان" في الفكر والفعل والعمل والسلوك .
أخذ التخلف طوال قرون يحاصر البشرية ، ويطحن " الانسان" بداخلها ، ويملأ مساحات واسعة في هذا الداخل بقيم : الكراهية ، العصبية ، العنصرية ، الاستبداد ، الارهاب ، الدوجما ، وقوائم الممنوعات بما في ذلك حرية التفكير .
لم تجسد القصور الفارهة ومظاهر الحياة المترفة وهي محاطة بالاكواخ وطوابير الجائعين في كل الازمان أي قيمة حضارية لخلوها من " الانسان" .. ظلت شاحبة ، بلا روح ، متجهمة ، لا يربطها رابط بما حولها وكأنها غرست في جوف "الانسان" لتقهره ، وتسحقه ،وتنشئ قيمها النقيضة لحاجاته في تراكمات قادت إلى المزيد من التوحش في العلاقات الاحتماعية.
ولذلك فقد كان لا بد أن يتجه الصراع مع التخلف وقيمه إلى المسار الذي يحرر "الانسان" ، ويطلق مبادراته وتأثيره على أوسع نطاق ، باعتبار ذلك شرطاً لتمكين البشرية من أنسنة الحياة بالمعنى الذي يجعل هذه المهمة فعلاً بشرياً يجسد سمو الثقافة والوعي والسلوك ، إضافة إلى معنى أن تبقى "إنساناً" ينبض بالانسانية قولاً وفعلا .
ولا بد من القول هنا إن نبذ هذه القيم المركبة على نحو يناقض حاجة البشرية إلى إعادة الاعتبار ل"الانسان" المسحوق بداخلها ، ليست خياراً مفتوحاً على احتمالات الممكن من عدمه ، بل هي ضرورة لا بد منها .. لأنها هي التي :
-تدمر فينا "الانسان" ..
-تضعف قدراته في التصدي لمتطلبات وجوده بعناوينها التي تتوقف عند حدود المسموح به وبشروط قاهرة لارادته ، بما في ذلك حقه في الاجتهاد ، وحقه في الاختيار ، وحقه في التفكير ، وحقه في الاعتقاد ، وحقه في أن يعيش بسلام .
-تبعث قيم التوحش التي تتسبب في الاستبعاد الإجتماعي بمعانيه الأكثر إحتقاراً للانسانية ..
-تحاصره على نحو لا يستطيع معه أن ينشئ علاقته بالحياة ككائن إجتماعي توجب عليه أن ينفتح على المجتمع ، ويصون شروط تطوره وأمنه وإستقراره..
-تحول بينه وبين أن يتجدد ويجدد لينتج المعرفة المعادلة موضوعياً للتقدم ، باعتبار أن التقدم هو الحياة في سيرها إلى الأمام بما تفرضه من بواعث التجديد الفكري والمعرفي والمادي التي لا تتوقف عند ما يعرف بالمسموح به .
هذه المساحة التي يتمدد فيها "الانسان" هي التي تنمو فيها العلاقات الاجتماعية بمضامينها الانسانية ، وتزدهر فيها الثقافة والمعرفة والعلوم ، وتؤسس فيها قواعد قوية للتعايش ، واحترام الآخر والدفاع عن حقوقه لحماية منظومة الحقوق التي توفر مناخ الحرية والابداع وشروط التجديد .
ولذلك فإنه كلما اتسعت هذه المساحة وتقلصت "قيم التخلف" التي تنتقص من قيمته ، كلما ازدهرت الحياة بقيم الانسانية وفي مقدمتها الحرية ، والعدل ، واحترام حقوق وخيارات الاخر ين .
هذه المساحة هي التي نتحمل فيها مسئولية عملنا خطأً أو صواباً .. ثواباً أو عقاباً .
الثواب والعقاب ، ثنائية الحياة التي تحتاج إلى نظام تتوازن فيه البواعث الروحية مع التطور المادي كي يبقى " الانسان" صامداً في وجه التغيرات التي يصنعها العقل الفعال في مجال العلوم والمعرفة والتطور المادي والتكنولوجي ..
لا يجب أن يتخلف الوجدان ، وبواعثه الروحية ، عن اندفاع العقل وطموحه ، حتى لا يرتد ذلك في مضاعفات تهدد "أنسنة" الحياة ، وتقمع الانسان بداخلنا وصولاً إلى تبيئته داخل منظومة طغيان من نوع آخر :
في الاولى توحش قيم التخلفً ،
وفي الثانية طغيان التطور التكنولوجي واندفاعه حينما يخلف وراءه إنساناً بلا إرادة .
يمضي المرء حياته في صراع لا يعرف كنهه ، ولو أدرك كنه هذا الصراع الذي يدفعه إلى ارتكاب الجرائم ، وسفك الدماء ، والاعتداء على الغير ، وإشعال الحروب ، وتدمير العمران ، والحاق الضرر بغيره لاتجه بصراعه إلى المكان الذي ينمي داخله " الانسان" ، وقيم الانسانية وبواعث أنسنة الحياة ، كتعبير عن إعادة بناء علاقته بالحياة على أسس يتساوق فيها الوجود الاجتماعي بالوعي الاحتماعي في أشد الحالات وضوحاً في علاقتهما بهذا المعنى الذي ينصرف إلى حماية البشرية ، ومواصلة مهمتها في البناء والارتقاء ، وتوفير شروط التقدم والعمران ، وصيانة الوجود في مواجهة كارثة الفناء .
لن يتحقق ذلك إلا بصيانة " الانسان" وتوسيع رقعته في الفعل البشري بصورة مستمرة .