ملحمة الاغتراب اليمني وعلاقة المغتربين بوطنهم

الاثنين 07 أكتوبر 2019 - الساعة 04:56 صباحاً

 

 إن ما يثير الشعور بالفخر والاعتزاز هو أن المغتربين اليمنيين في كل بقاع المهجر في الأرض، وفي بريطانيا على وجه الخصوص، ظلوا على صلة بوطنهم الأم، وهو ما يعبر عن أصالة الانتماء لبلدهم، يمن الحضارة والتاريخ، وكانوا دوماً إلى جانبه في أفراحه وأحزانه، كانوا إلى جانبه كتعبير عن قوة الارتباط ومتانة العلاقة جيلاً بعد جيل.

 

هنا في المملكة المتحدة البريطانية، هذا البلد الصديق الذي فتح ذراعيه لليمنيين منذ ثلاثينيات القرن الماضي، تكونت الجاليات اليمنية بترابط وثيق مع مشاعر الحب والانتماء لليمن.. ولعب المغتربون أدواراً إيجابية في صياغة النموذج الجميل لهذه العلاقة من بين كل بلدان الاغتراب، وكان أروع ما قدمته هذه الجاليات هو أنها غيرت مفهوم الشتات الdiaspora، التي لصقت بكثير من مهاجري العالم، ليحل محله مفهوم مختلف للهجرة حكم العلاقة بين المغترب وبلاد المهجر من ناحية وبين المغترب وبلاده الأم من ناحية أخرى.

 

ولا ننسى الدور الإيجابي للسلطات البريطانية في تغيير هذا المفهوم وإكسابه ذلك البعد الذي يعيش المغتربون في ظله مكرمين وكمواطنين، وكذلك الدور الذي لعبته الحكومات اليمنية من خلال المتابعة المستمرة لقضايا المغتربين وإنشاء وزارات متخصصة لهذا الغرض، ناهيك عن عقد المؤتمرات العامة للمغتربين لمناقشة قضاياهم المختلفة، وتوجيه السفارات بأن تكون قضايا المغتربين على رأس مهامهم في بلدان الابتعاث الدبلوماسي..

 

اليوم الجيل الثالث والرابع من أبناء المهاجرين الأوائل الذين اشتغلوا على بواخر الفحم، وخاضوا غمار البحار بحثاً عن أرض تأويهم، وعملوا في مصانع الحديد والصلب، والذين جعلوا من الغربة ملحمة تضاف إلى ما اجترحه اليمنيون من ملاحم تاريخية جعلت حياتهم مقاومة للظلم والفقر في بلدهم وعمراناً حيثما حلوا.. يشقون طريقهم في هذه المجتمعات بنجاح كأطباء ومحامين ومهندسين ومؤهلين في مختلف التخصصات العلمية.

 

قصة الاغتراب اليمني جديرة بأن تحكى لهذه الأجيال، لقد صور مطهر الارياني، رحمه الله، جانباً من تلك الملحمة في قصيدته الباله، حيث يصور الظروف التي لجأ فيها كثير من اليمنيين إلى الاغتراب فيقول:

 

خرجت أنا من بلادي في زمان الفنا

أيام قالوا موسم الطاعون، قالوا دنا

وماتوا أهلي.. ومن حظي النكد عشت انا

**

ذكرت أخي كان تاجر، أين ما جا فرش

جو عسكر الجن شلوا ما معه من بقش

بكر غبش، أين رايح؟ قال أرض الحبش

وسار، واليوم قالوا حالته ناهيه

**

بحثت عن شغل في الدكة، وميناء عصب

وفي الطرق، والمداوي، ما لقيت الطلب

شكيت لإخواني البلوى وطول التعب

فقالو البحر، فقلت البحر واسارية..

 

إلى أن ينتهي به المشوار ويقول:

 

راجع أنا يا بلادي يا بلاد الهنا

يا جنتي يا ملاذي.. يا امي الغالية

 

هنا بيت القصيد وملخص المأساة، الوطن الذي توزعته المصالح وتقاسمه النفوذ، الوطن الذي تغنى به الجميع ولم يعملوا من أجله.. ظل أنشودة يترنم بها القاصي والداني، وحينما تتهيأ الظروف لخلقه في واقع الحياة تلازماً واستجابة للنداء الذي أطلقه هذا المغترب بعد مشواره الطويل كترميز لحاجة اليمنيين إلى وطن يلملمهم من شتات الحاجة إلى الغربة تحتشد القوى التي جندت نفسها لتخريب كل جهد باتجاه بناء الوطن والتي كان آخرها الانقلاب الذي قام به الحوثيون على التوافق الوطني وإغراق اليمن في كارثة الحرب.

 

وبسبب ذلك تتكرر مأساة الاغتراب في أكثرها بؤساً، رأينا شبابنا يجوبون البحار بحثاً عن ملجأ، هناك من ينجو وهناك من يبتلعه البحر، وصلوا إلى جزر وبلدان لم يسمع بها أحد من قبل، كل ذلك لأن مشروع الوطن الذي حلموا به تم تخريبه، وآن للجميع أن يفكروا في أنه لا كرامة للإنسان بدون وطن.

 

أحيي المغتربين مرة أخرى بمناسبة الذكرى السابعة والخمسين لثورة 26 سبتمبر والذكرى السادسة والخمسين لثورة 14 أكتوبر المجيدتين.

 

لا بد أن تكون هذه الذكرى مناسبة لاستعادة أخلاق الثورة في علاقاتنا ببعضنا، والتي نستمد منها روح التعاون والمحبة والوفاء والسلام والتعايش والقبول بالآخر واحترام الاختلاف والتنوع، وإلا فإنه لا معنى لأي احتفال إذا لم يحمل استدعاء هذه المضامين التي قامت الثورة لتعيد من خلالها إعادة بناء الشخصية اليمنية بهذه الأسس الأخلاقية والكفاحية الرفيعة.

 

إن الجاليات التي صمدت في وجه التحديات الكبيرة معنية قبل غيرها بغرس قيم المحبة والتسامح والتعاون بعيداً عن الأهواء السياسية، فالسياسي الجيد هو الوطني الجيد، وهو الاجتماعي الجيد، وهو المتسامح الجيد.. وهو المحب الجيد لأبناء بلده.. هو المحاور الجيد الذي ينصت للآخر ولا يدعي امتلاك الحقيقة.

 

في النظم التي تؤمن بالتنوع والتعدد لا مجال لاحتكار الحقيقة.. الادعاء باحتكار الحقيقة قاد إلى العنف والتطرف وعدم الاستقرار.

 

سيدرك اليمنيون هذه الحقيقة، إن لم يكونوا قد أدركوها فعلاً، وسيكون ذلك مفتاح طريقنا نحو الاستقرار والتقدم وبناء وطننا الذي سيكون جميلاً بجمال المبادئ التي أطلقتها ثورتا سبتمبر وأكتوبر.

 

 

من كلمة للدكتور ياسين  في احتفالات الجاليات اليمنية في مدينة برمنجهام ببريطانيا بأعياد الثورة 26 سبتمبر و14 أكتوبر يوم السبت 5 أكتوبر 2019م

 

 

111111111111111111111


جميع الحقوق محفوظة لدى موقع الرصيف برس