التُربة مُش لُعبة!
الاربعاء 09 أكتوبر 2019 - الساعة 04:36 صباحاً
فكري قاسم
مقالات للكاتب
فتحت التربة قلبها أثناء الحرب لكل النازحين الهاربين من دمار الصراع المسلح في تعز وفي عدن، وكانت الأم الرؤوم لكل الناس القادمين إليها بمختلف انتماءاتهم الحزبية ولم تسجل فيها أي حالة تحشيد مناطقي أو طائفي أو عرقي أو ديني لمواجهة انقلاب الحوثيين، ولم يصطف أهاليها خلف أي شعارات جوفاء لدحر الانقلاب، وقاوم رجالها الانقلاب بعقيدة وطنية خالصة، بينما ظل علم الجمهورية اليمنية واقفاً لوحده يرفرف فوق أبنية البيوت المدارس والدكاكين والمرافق الحكومية لكأنها اليمن.
وفي التربة تنوع سكاني قديم لأناس من مدن مختلفة من البلد استقروا فيها منذ وقت طويل وذابوا فيها وأصبحوا مع الوقت مواطنين ينتمون بقلوبهم وعقولهم إليها شأنها بذلك شأن أي ريف تمدن برقي لتصبح التربة خلال الحرب مدينة لخليط من الناس والأجناس والأفكار ولم تشهد أي نزق ضد أي إنسان من خارج تربتها الطيبة.
نزحت مع عائلتي إلى شرجب وكانت التربة سوق جميع الناس بينما كانت الحرب في أوجها والبلد منقسماً على نفسه، وصاحب عدن ما يشتي الدحباشي ولا يشتي الشمالي، وصاحب تعز ما يشتي صاحب مطلع، وصاحب مطلع يقاتل صاحب منزل لأنه داعشي، والإخواني يحرض بضراوة ضد المؤتمري العفاشي، والعفاشي يحرض ضد الإخواني، والنفسيات كلها متأزمة والأجواء العامة ملوثة بالكراهية والأحقاد، عدا التربة كانت بيت كل الناس وبنت ناس محترمة، ولسانها مليح، وقلبها نظيف، وروحها توزع المحبة لكل المارة في الطريق، بينما أنا أمشي في شوارع التربة وأشرب الشاي في مقاهيها وأشتري مقاضي البيت من سوقها لم أسمع أو أشاهد، ولو لمرة واحدة، أناساً يتقاتلون لمجرد أنهم غير متفقين في الرأي، وفي المقايل يلتقي المؤتمري والإصلاحي ويتناقشون بلطف وذوق ولا أحد يتهم الآخر بأنه خائن أو عميل ولا أحد يحشد الطاقات ضد الآخر مع أن الحرب تطحن الناس بشراسة، ولكن الأمور في التربة كانت تبدو مختلفة ويلتقي الخصوم في المقايل وفي الطريق بشكل يومي اعتيادي تماماً مثلما يلتقون في أيام السلم ويا دار ما دخلك شر.
والمقوت القادم من صنعاء أو عمران يطلب الله في سوق التربة ومحد يكلمه ولا أحد يقله من أنت. والذين نزحوا إلى التربة واستقروا فيها وجدوا من الأهالي كل اللطف والتعاطف، ولم يشعر أي نازح بأي استغلال من قبل مؤجري البيوت على عكس ما كان يحدث، ولا يزال يحدث حتى هذه اللحظة، في مدن أخرى كعدن وصنعاء، حيث وجد غالبية مؤجري البيوت في النازحين مغنماً كبيراً لطلبة الله وجني الأموال.
وفي التربة مجتمع حضري وكثافة سكانية كبيرة وروح السلم الاجتماعي بين الأهالي كبير ولكن الشياطين لا يريدون للتربة أن تظل القلب المفتوح لكل اليمن، وهناك الآن من يعبث بتلك الروح المتمدنة ومن يحاول أن يشرخ تآلف ذلك المجتمع الحضري ويشوه فضائله الحسينة ويدمر حالة التعايش الجميلة وجعل التربة الآمنة ميداناً لحرب تغلي على مهل!
رهان اليمنيين على مجتمع التربة الواعي كبير على العموم وخفافيش الظلام الذين يحشدون طاقاتهم للقتال تحت سواتر حزبية وأفكار دينية عقيمة لن يجدوا في مجتمع التربة آذاناً صاغية، ولن تكون التربة لعبة في يد أحد، وستظل أعلام الجمهورية اليمنية ترفرف فوق أبنيتها كمدينة تبحث عمن يأخذ بيدها إلى العصر إلى حيث دولة النظام والقانون والعدالة والمساواة، ولا مكان في التربة لدولة الخلافة الإسلامية، ولا لدولة الولاية الصفوية، ولا لدولة العسكر والرعية.