متى ينتفض اليمن ؟

الاحد 01 ديسمبر 2019 - الساعة 06:36 صباحاً

 

 

قد لا يحلم أحد بنهاية قريبة للحرب الجارية في اليمن ، ولا بأن تنتهى إلى استعادة  البلد كما كان قبلها .

  وقد لا تكون الحروب شيئا استثنائيا في تاريخ اليمن ، فقد جرت حرب ضارية ، استمرت لثماني سنوات ، بدأت عقب انقلاب عبد الله السلال على المملكة المتوكلية في 26 سبتمبر 1962 ، وإعلان الجمهورية العربية اليمنية ، التي ساندتها مصر عبد الناصر ، ووقفت ضدها كل الملكيات العربية الرجعية وقتها ، بدعم أمريكا وإسرائيل ، إضافة لبريطانيا التي كانت تحتل جنوب اليمن ، وحين وضعت الحرب أوزارها في عام 1970 ، كانت الجمهورية قد انتصرت ، وفكت حصار الملكيين على صنعاء ، وكان جنوب اليمن قد تحرر قبلها من ربقة الاستعمار البريطاني ، وكان المجتمع اليمنى يلتحق بإيقاع العصر الحديث .

  المعنى ، أن الحرب وقتها كان لها مغزى ، كانت صداما عنيفا داميا بين نزعتين ، وانتصرت النزعة الجمهورية التحررية في النهاية ، وقامت الجمهورية ، التي شهدت أزهى سنواتها بين 1974إلى 1977، أي في العهد القصير الثرى لرئاسة إبراهيم الحمدى ، الذى جرى اغتياله بتدخل الجوار السعودي ، مما مهد لحكم على عبد الله صالح ، الذى استمر لعقود ، وشهد فسادا ناهشا ، برغم انجاز الوحدة اليمنية جنوبا وشمالا في أوائل تسعينيات القرن العشرين ، وإلى أن قامت ثورة شعبية عام 2011 ، سرعان ما جرى إجهاضها بالتدخل الرجعى ، فيما عرف باسم "المبادرة الخليجية" ، وإلى أن جرى التحول إلى الحرب من جديد ، بعد استيلاء الحوثيين على السلطة في صنعاء أواخر 2014 ، واندلاع الحرب المدمرة ، التي قاربت الخمس سنوات من عمرها ، ومن دون التوصل إلى نتيجة عسكرية حاسمة ، اللهم إلا إهلاك الحرث والنسل ، ونشر الأوبئة الفتاكة ، وتهجير ملايين من نخبة اليمن إلى خارج الحدود ، وتفتيت المجتمع اليمنى على نحو غير مسبوق ، والعودة باليمن إلى ما قبل حرب الجمهورية ، بل ربما إلى ما قبل المملكة المتوكلية اليمنية ، التي قامت في نهايات العقد الثاني من القرن العشرين ، وحيث كان اليمن قبلها ، مجرد فضاء جغرافي ، قامت فيه لمئات السنين ، سلطنات وإمامات بالعشرات ، حجزته طويلا في قوالب القرون الوسطى .

  وليس بالوسع ، أن نبدى تعاطفا أو ميلا لأى طرف في الاحتراب الراهن ، فليس من عنوان تقدمي ولا تحرري واحد ، فلا التحالف السعودي الإماراتي يريد إنقاذ اليمن ، ولا أدوات التحالف اليمنية مما يستدعى حماسا ، ولا الحوثيون الذين يفخرون بأسلحتهم الإيرانية ، مما يمكن أن تصفه بالقوة الثورية ، فهم رجعيون حتى النخاع ، ونزعتهم السلالية تفضحهم ، وموقفهم ضد النزعة الجمهورية لا يخفى ، ورايتهم المرفوعة ملكية وراثية ، تحصر أهل الحل والعقد في السلالة الهاشمية ، وفى العائلة الحوثية المتشيعة ، التي تريد الاستئثار بأتباع المذهب الزيدي ، والزيديون أقلية في التكوين الديني لليمن عموما ، ولم تكن لهم مشكلة طائفية مع المذهب الشافعي السائد ، بل كانت المشكلة سياسية ، حيث استندت الملكية المتخلفة إلى ادعاء الوراثة الزيدية الهاشمية ، وبذات النهج الذى يرثه الحوثيون اليوم ، ومن دون اقتناع من عموم الزيديين ، فقد كان إبراهيم الحمدي زيديا ، وهو ألمع وأفضل رئيس جمهورية يمنى ، وكان على عبد الله صالح هو الآخر زيديا ، وجرى اغتياله في النهاية على يد الحوثيين .

  والمعنى مجددا ، أن لا هدفا سياسيا نبيلا من وراء الحرب الجارية ، فالحوثيون ملكيون عنصريون سلاليون رجعيون ، والأطراف المقابلة تدعى نسبا إلى معنى الجمهورية ، وباستثناء الناصريين والاشتراكيين وفئات أخرى أصغر ، قد لا تجد غير تشكيلات رجعية ، تدعى انتسابا للإسلام المتسلف ، أو لنصرة عائلة على عبد الله صالح ، وتخلع على نفسها أردية عصرية ، لا تكاد تخفى طبائعها القبلية والجهوية ، إضافة لجماعات الانفصاليين في جنوب اليمن ، وطوائف أكثر ممن حولوا الحرب إلى مهنة في ذاتها ، وينقلون البنادق من كتف لأخرى ، بحسب اتجاهات الربح المالية والارتزاقية ، ولا يؤمنون بأي قضية أو مبدأ سوى غواية الحرب من أجل الحرب ، ومضاعفة بؤس ما تبقى من المجتمع اليمنى ، الذى يجتاحه الجوع والمرض ، مع انهيار كل وجود للدولة ، بعد أن تحول اليمن إلى خانة "الدول الفاشلة" بامتياز .

والأخطر مما جرى ، أن المجتمع اليمنى فقد عافيته ، فوق فقدان التماسك السياسي والجغرافي ، ومن دون أن يسعى أحد خارج اليمن إلى إنقاذه ، فلم يعد للسعودية من فرصة لانتصار حربى ، وقد انتقلت بإطراد إلى مواقع الدفاع العاجز عن حدودها ومنشآتها البترولية ، ولم تعد بها من قدرة على نصرة أعوانها اليمنيين ، وقد لجأت إلى فرض "اتفاق الرياض" بين عبد ربه منصور هادى و "المجلس الانتقالي الجنوبي" ، علها تجد سندا تتكئ عليه في خرائط اليمن المفككة ، التي تحولت لمناطق نفوذ وسيطرة متفرقة ، فالحوثيون يسيطرون على الهضبة الشمالية ، ولا فرصة عندهم لمد النفوذ إلى ما هو أوسع ، وجماعات متعددة متناحرة ، تنتشر في الوسط من حول مدينة "تعز" ، فيما تبدو "الحديدة" وامتداداتها مجالا لنزاع حربى قد يطول ، بين الحوثيين و"حرس الجمهورية" التابع لعائلة صالح ، ويسيطر "المجلس الانتقالي" على عدن وجوارها من محافظات الجنوب ، فيما تبدو خطوط الصدام متجمدة إلى حد ملموس ، حتى وإن دارت مناوشات واشتباكات متقطعة ، فقد تعبت الأطراف كلها من كلفة الحرب ، التي تريد السعودية الخلاص منها ، ومن دون ختام سياسي ظاهر الملامح ، فمصير اليمن يبدو مؤجلا ، ومرتبطا بصراعات أخرى أكبر جارية في منطقة الخليج ، لا تبدو لها من نهاية قريبة ، فالسعودية تحت الحماية الأمريكية تواجه إيران ، وطهران لن تفرط بورقة الحوثيين في اليمن ، خصوصا بعد تهديد انتفاضات لبنان والعراق لخرائط النفوذ الإيراني ، وانشغال إيران بالمضاعفات الاجتماعية والسياسية المتفاقمة للحصار الاقتصادي.

  وفى المحصلة ، لا يبدو أمام اليمن ، سوى واحد من طريقين ، إما تسوية صورية هشة ، تنطوي على احتمالات تجدد الحروب ، ومخاطر تكريس تفكك اليمن إلى عدة "يمنات" ، وليس فقط إلى جنوب وشمال ، كما كان عليه الأمر قبل عقود ، وتلك هي ذروة المأساة ، التي يحتاج الخلاص منها إلى معجزة سياسية حقيقية ، تقود إلى استعادة اليمن موحدا ، وما من سبيل إلى المعجزة بغير طريق آخر ، لا تكون الحرب واحدة من محطاته ، ويعتمد على عمل سلمى مدنى تماما ، يحاكى أساليب الانتفاضات العربية المعاصرة ، ويخلع عن نفسه كل ولاء أو شبهة ارتباط بعنوان إقليمي بعينه ، ويجمع في تحرك سلمى متصل ، بين مدن اليمن الكبرى في صنعاء وتعز وعدن ، ويضع لنفسه هدفا واحدا ، هو استعادة اليمن لليمنيين ، والتخلص من هيمنة جماعات وميليشيات الحروب المهلكة ، وقد لا يبدو الطريق إلى انتفاضة يمنية جامعة سهلا ولا سالكا ، وهذا صحيح إلى حد كبير ، وإن كنا نثق في سلامته ، وفى كونه السبيل الوحيد الباقي أمام الشعب اليمنى ، الذى يتوق للسلام ، والعودة إلى أحوال الحياة الطبيعية ، فقد آن للبنادق أن تسكت ، وآن للعقل والحكمة اليمنية أن تقوم بدورها ، وأن ترفع شعار السلام وإعادة بناء الدولة ، استنادا لتفاهمات عامة ، بينها وثائق الحوار الوطني الشامل  الذى جرى قبل الحرب ، وما من خلاص أكيد بغير صرخة يمنية من الأعماق ، عابرة لخطوط التقسيم ، التي انتهت إليها الحرب ، وساعية لحق اليمنيين في كسب الحرية ، وبناء نظام سياسي توافقي ، يجرى الاحتكام في صوغ ملامحه إلى انتخابات واستفتاءات شعبية حرة .

  فهل تتحقق المعجزة ؟ ، وينتفض اليمن ، هذا ما نأمله ، وإن كانت الحوادث لا تجرى بالنوايا الحسنة وحدها ، لكن اليمن ، برغم عمق جراحه ، ونوافير دمه السيالة ، وتعدد وجوه مأساته الحاضرة ، هذا اليمن المبتلى ، قادر فيما نظن على اجتراح المعجزة من جديد ، وقادر على الانتفاض مجددا ، تماما كما فعل مرات من قبل ، في انتفاضات الجمهوريين اليمنيين ضد الملكية الإمامية المتحجرة ، وفى الصمود الأسطوري لأبناء وبنات ثورة 26 سبتمبر 1962 ، وفى الكفاح المسلح للجنوب اليمنى ضد الاحتلال البريطاني ، وفى صياغة هدف واضح قاطع لانتفاضته المأمولة ، التي إن جرت بإذن الله ، فسوف تستقطب مشاعر وتأييد أغلبية المواطنين اليمنيين ، المهم أن يبدأها أحد ، يخرج من الاستقطابات الحربية كلها ، ويطلب نجدة الناس العاديين ، فاللحظة العربية الراهنة ، هي لحظة المواطن العادي ، المتجرد البريء من كل ميل ، إلا الولاء لأشواق الكرامة والحرية ، واليمنيون هم أكثر العرب الحاضرين احتياجا لانتفاضة سلمية ، ندعو القوى المدنية اليمنية الحية إلى البدء بها ، ثم يطورها الجمهور الواسع المبدع ، وبوسع الشعوب حين تصحو لحقوقها ، أن تصنع المعجزات ، وأن تهزم صناع المآسي .

111111111111111111111


جميع الحقوق محفوظة لدى موقع الرصيف برس