الدنبعة..الاعتياش من الإهانات

الخميس 16 ابريل 2020 - الساعة 10:23 مساءً

 

عام 2012، روى لي سياسي كبير عن العلاقة الخاصة التي تجمعه بالرئيس الجديد، آنذاك، عبد ربه منصور هادي، وقال لي، إن سر العلاقة، التي تفاجأ هو شخصياً بمتانتها، تعود إلى حقبة علي عبد الله صالح، إذ كان محدثي، حد قوله، يحضر مقيلاً أسبوعياً للرئيس السابق، وكان عادةً ما يتدخل عندما يقوم صالح بتوبيخ نائبه والتجريح فيه والسخرية منه، وبحسب صاحبي، فإن تلك الإهانات كانت تجرحه، وكانت تدفعه لإبداء تحفظه على صالح، والإشادة بمناقب هادي، وأبناء الجنوب عامةً.

 

سألت محدثي، عن ردة فعل هادي على تلك الإهانات، فقال: إن هادي كان يلوذ بالصمت.. ثم يغرق في وصف مناقب هادي الذي قال بأنه مثقف وواعٍ ويتحدث ثلاث لغات على الأقل، فضلاً عن أنه لم ينسَ لهجة صالح المناطقية في تقريعه... الخ. بعد فترة، عين هادي صاحبي في منصب رفيع، وبعدها بفترة، أقاله بطريقة تنم عن "نذالة" نادرة، بعد الخدمات الكبيرة التي قدمها صاحبي الآنف ذكره، وحين سألت أحد المقربين عن سبب الإقالة، قيل لي: إن نجاح صاحبي في عمله، استفزّ الرئيس، وأصبح يشعره بتهديد كبير!

 

لقد كانت تلك واحدة من الحماقات التي وقع فيها صديقي، ووقع فيها الكثيرون منا، فنحن نتعاطف دائماً مع الضعفاء، وقد كنتُ أدركُ منذُ وقتٍ بعيد، كغيري، أن الاستمراء الطويل للضعف، ما هو إلا دليل على انحطاط الضعيف، ولا يستدعي التعاطف، بل محاربة هذه اللوثة، ومرضاها، حتى القضاء عليها. لكننا وقعناً جميعاً، في فخ التعاطف مع ذات منسحقة، وقد نسب لأفلاطون قوله: "لو أمطرت السماءُ حريَّة لرأيت العبيد يفتحون المظلات"، وهذا يفسر أن كيف باتت العبودية كفكرة –لا الاستعباد كظلم– منهج الحياة الذي يتقنه ويستمتع به هؤلاء، ويشكل مصدر عيشهم أيضاً..!

 

قد ظلّ هادي، يعتاش على تلك الإهانات والتجريح 17 عاماً، كنائب للرئيس، وقد رأى كثيرون بسبب العاطفة –وأنا منهم– أن هذا سببٌ لإبداء التعاطف، ودعم هذا الرجل كي ينتصر لكبريائه الذي اعتقدنا أنه جريح ويحتاج للمساندة، ولحقوق شعبه المسحوق، الذي ظننا أنه يمثله.. لكن ما اتضح لاحقاً، أن هادي وجد أن تلك الحياة المهينة؛ فرصة حقيقية للاستمتاع بالمكاسب المادية، وامتيازات المنصب، مع شهادة إعفاء من تحمل المسؤوليات ونتائج الفشل والتقصير والإهمال، وقد كان له ذلك.

 

إنها طريقة السادات؛ الذي كان يوصف بـ"حمار عبد الناصر" في حقبة الزعيم الراحل، إذ كان السادات مطيعاً وإمعةً لعبد الناصر بطريقة أثارت دهشة الجميع، وحين وصل إلى السلطة، عقب رحيل سلفه، بحث له عن "عرابٍ/ مرشد" جديد، وكانت أميركا هي الموجه والمرشد للسادات، فعل هادي الأمر ذاته، وقد وصف نفسه في الشهور الأخير من حكم صالح، قبيل التوقيع على المبادرة، بأنه لا شيء ولا يقدر على شيء بدون علي عبد الله صالح، وبعد أن تولى السلطة، ووجد في الخارج موجهاً ومرشداً ومتبنياً، سلم نفسه كليَّةً، وراح يسبح في بحر النعم، وشعبه يغرق في الجحيم، دون أن يسترعي منه ذلك أدنى اهتمام!

 

وإن كان هادي أكثر قدرة من السادات، على الاعتياش من وراء التجريح والشجب من خصومه، ومن أنصاره في بعض الأحيان، وتزييف ذلك على أنه "تمتع بروح الديمقراطية"، (فيما يبدو أن "هادي" لا يقرأ ولا يسمع شيئاً مما يكتبه ويقوله منتقدوه، إلا ما تورده تقارير مدير مكتبه عبد الله العليمي من وشايات بحق الخصوم السياسيين للإصلاح من أجل إيغار صدره..) فإنه قد رزق –أي هادي– بفرصة لم يكُن يحلم بربعها السادات، وهي أن يظل رئيساً مطلق الصلاحيات، دون أن يخشى أي ثورات أو تظاهرات أو عمليات اغتيال سياسي من متطرفين دينيين –وما أكثرهم في اليمن– أو أن يتعرض لأي مساءلة شعبية.. وقد أتيح ذلك لهادي ذلك بدعاء الوالدين، فها هو يدخل عامه السادس كرئيس لليمن، يصدر قراراته من فندق في المنفى!

 

لقد نقل هادي منهجه، إلى قطاع واسع من النخب اليمنية، السياسية والعسكرية والأمنية والمدنية والقبلية على السواء، وأصبح أسلوب العيش المتبع في اليمن في سنوات حكم الرئيس هادي، هو الدنبعة، بما تعنيه من اعتياش على الإهانات، وصبر على التوبيخ وكسل في الإنجاز وفشل في القرارات، وغدا رجل الدولة، والمسؤول، والشخصية عامة، والقائد السياسي، كلٌ منهم يتنازل عن دوره ومسؤولياته، إما طمعاً أو خوفاً أو كلاهما، وإن كان قائداً عسكرياً فهو يتخلى عن أفراده، وإن كان مسؤولاً مدنياً فهو يتخلى عن موظفيه، وهكذا.

 

يحدث ذلك بسبب ظاهرة "الدنبعة"، التي أشرنا إليها سلفاً، والاسم مشتق من اللقب الشهير للرئيس هادي، "الدنبوع"، الذي دنبع الحياة السياسية والاقتصادية والعسكرية والعامة لنظل في حالة المراوحة في اللاسلم واللاحرب معاً، واللاهزيمة واللانصر، واللانجاح واللافشل، وهذا ما يشجع على تبلور شخصية الدنبوع الانتفاعي، البارع في استهلاك الشعارات الرثة والانتفاع من ورائها ما استطاع والتملص من مسؤولياتها ما أمكن، يتأتى ذلك بفرصة تاريخية لن تتكرر بعد تفشي الدنبعة كسلوك شائع شعبياً، مصداقاً للحديث النبوي الشريف "الناس على دين ملوكهم".

 

هذه واحدة.. وسيكون لنا وقفات لاحقة، بإذن الله..

 

111111111111111111111


جميع الحقوق محفوظة لدى موقع الرصيف برس