عندما ولدت تعز مرة أخرى على يد ثلة من المغامرين

السبت 03 نوفمبر 2018 - الساعة 07:10 صباحاً

الفصل الأول من قصة الزمن القادم.

المقاومة الشعبية في تعز ليست “فينوس”، فهي لم تولد مكتملة النمو في خضم الأمواج العاتية، لكن المدينة وأحلامها كانت قد ولدت فعلا مرة أخرى، في لحظة فارقة، بفضل ثلة من المغامرين الشجعان.

 

كانت تلك هي القصة التي لا يمكن لأحد نسيانها، أو لنقل كان ذلك هو الفصل الأول من القصة التي لا تزال تكبر وتمتد في الزمن القادم.

بالطبع كل الصراعات الداخلية والخارجية التي شهدتها اليمن خلال عقود طويلة، وعلى نحو مكثف منذ اندلاع ثورة فبراير، كانت قد ساهمت في نشوء وتبلور مقاومة مسلحة عصية على الانكسار.

ثم بفضل ثلة من المغامرين الشجعان الذين قرروا التصدي للمهام المطروحة على جدول أعمال اللحظة التاريخية.

إذن يمكن القول أن المقاومة جاءت كاستجابة لحالة ثورية ظلت حية طوال أربعة أعوام، وأصبح يعززها واقع ملموس جدير بالمجابهة.

عندما كانت كل الأحلام الكبيرة، والتضحيات العزيزة، قد أصبحت عرضة للشتات، وكان البلد برمته على موعد مع الخراب وكل أنواع الحقارات تعمل، كانت دموية العصور أيضا قد أصبحت ممزوجة بتواطؤ العالم المتحضر، وتبدت لأول مرة من دون قناع، ولم يكن من أمل للناس سوى مواجهة مصيرهم هذا، وهو ما أدركوه قبل أن يعرفوا كيف السبيل إلى ذلك.

 

 

اندلعت الحرب في مدينة تعز في مطلع ابريل من العام 2015، بعد نحو شهر من ذهاب قوات الحوثي وصالح نحو مدينة عدن الجنوبية لمطاردة الرئيس هادي بعد أن نجح في الإفلات من الإقامة الجبرية التي كانت مفروضة عليه من قبل سلطة الانقلاب في صنعاء.

 

 

لكن حتى قبل أن يحدث هذا فإن شوارع مدينة تعز كانت قد أصبحت تشهد مظاهرات كبيرة ترفض الحرب، ويرفض المشاركون فيها أن تصبح مدينتهم بمثابة ممر لقتل أخوانهم الجنوبيين.

 

ومع وصول أول دفعة من قوات الأمن المركزي إلى معسكر يقع في المدخل الشرقي للمدينة (جولة القصر) انتقلت المظاهرات إلى هناك لنفس السبب السابق.

 

لكن القوات التي كانت تمر لأخذ استراحة قصيرة قبل استئناف رحلتها إلى عدن، بدأت بتدشين حربها الواسعة بمجزرة صغيرة خلفت عدد من القتلى والجرحى في صفوف المحتجين.

 

عاد المحتجون أدراجهم، وقد أيقنوا وعلى نحو عميق، أنه لم يعد الوقت الملائم لاستمرار الاحتجاجات السلمية.

توقفت المظاهرات لأول مرة في المدينة التي لم تهدأ منذ أن تفجرت شرارة الثورة في شوارعها في فبراير 2011 لتشتعل ثورة عظيمة عمت كل ربوع اليمن.

لقد عرف عن احتجاجات هذه المدينة، خلال السنوات الماضية، أنها لا تهدأ طالما أن هناك ما يدعو لذلك.

لكن قبل أن يطفو هذا الهدوء على السطح، كان المحتجون قد أدركوا بحدسهم الثوري، طبيعة المعركة التي عليهم خوضها، واحتياجاتها، ولأن معظم السكان في تعز عزلا ولا يمتلكون أسلحة، فقد استعاضوا من أجل التمهيد لهذه الخطوة، بجلب الورود الحمراء، ومنحها لجنود ينتمون لبعض كتائب اللواء 35 مدرع.

 

 

فقد كانت الأجواء متوترة، وكانت عربات عسكرية تتبع هذا اللواء الذي عين له هادي قائدا جديدا قبل أيام، تحرص على التجول في شوارع المدينة والمرور بمحاذاة المتظاهرين، وكان الجنود يبادلون المحتجين حماس خفي وبعض الابتسامات، بينما المحتجين يجلبون لهم مزيد من الورد ويلتقطون معهم الصور.

 

 

أولئك الجنود سيخوضون أول معركة حقيقية في مواجهة قوات صالح والحوثي المنتشرة في محيط مدينة تعز وبعض أحياء إلى جانب تلك القادمة من صنعاء، والتي تريد السيطرة على مقر معسكرهم الرئيسي في المطار القديم غرب المدينة.

 

فقد رفض القائد المعين للتو تسليم معسكره، لا كما فعل كثير من قادة الأولوية المحيطة بالمدينة.

أنحاز لشرفه العسكري وللناس ولتلك الورود التي كانت تقدم لجنوده بنظرات قلقة وارتباك من يبحث عن أمل لا سبيل إليه.

في مثل هذه اللحظة التي ستعيشها مدينة تعز وقد ظهرت أكوام من الحقائق للسطح هكذا فجأة، حيث انحازت المعسكرات المحيطة بالمدينة للقادمين وفتحت لهم أبوابها دون طلقة رصاص واحدة، وحيث الحرب خيار نهائي بالنسبة لمن يريد إشعالها.

 

في مثل هذه اللحظة سوف يستشعر الجميع حجم المأزق التاريخي الذي لم يستعدوا له مطلقا.

وكانوا لا يزالون مؤمنين في أعماقهم، أنه مهما بدا أنهم أمام عهد جديد، إلا أن الاحتجاج السلمي لا يزل أقوى من كل الأسلحة.

غير أن الواقع وما استجد في العامين الأخيرين الذين سبقا تلك اللحظة على الأقل وفشل الثورة في تحقيق أيا من أهدافها، كل هذا كان يقول شيئا آخر لا علاقة له بمعتقدات المحافظة وأرثها المدني.

خلال فترة الصمت الذي يسبق العاصفة، كانت التعزيزات العسكرية تمر عبر الأجزاء الشرقية من تعز نحو محافظتي لحج وعدن، وكانت معارك صغيرة قد بدأت هناك، وآخذ الطيران الحربي يحلق فوق القصر الرئاسي في حي معاشيق حيث يسكن الرئيس، وتطلق الصواريخ التي ستنهي المعركة.

كل المعطيات كانت تقول أن البلد ستعود مائة عام للوراء.

وليست هنا الكارثة وحدها.

بل في هذه الطريقة المذلة التي تتطور فيه الأمور بتسارع.

مزيد من القوات أيضا تمر باتجاه عدن.

وسكان تعز يختبرون ذلك النوع من الغصص الذي يبعثه الشعور بالعجز.

وقعت مذبحة أخرى في مدينة التربة التابعة لتعز، والواقعة في مرتفع يطل على محافظة لحج من الجهة الجنوبية.

أرادت قوات صالح والحوثي أن تعزز تمركزها في كل الأماكن وأردت المرور من هذه المدينة لاختبار ردة الفعل.

خرجت مظاهرة كبيرة، ترفض مرور هذه القوات التي ستذهب لإقامة حفلة دم لا أحد يعرف كم ستستمر.

فتحت القوات الرصاص على المحتجين وسقط عدد من القتلى.

داخل المدينة، كانت قوات صالح والحوثي تحرص على إظهار القدر اللازم من العجرفة أثناء مرور عرباتها في الشوارع، ثم أخذت هذه القوات تسيطر على المواقع الحيوية وتتمركز في أسطح مباني المؤسسات الحكومية.

 

أصبحت المدينة تحت قبضة المليشيات المرعبة.

لكن أولئك الجنود الذين تحدثنا عنهم والذين بادلوا المحتجين الابتسامات مقابل تلك الورود، في ذروة تطور الأحداث، رغم أن أيام فقط مرت على ذلك، إلا أن كل ذلك كان قد أصبح منسيا.

لكن هؤلاء الجنود ظلوا محتفظين بمواقعهم وبرنامجهم اليومي في المرور بشوارع المدينة.

كانت رسالة تحدي واضحة للمليشيات.

ضاق مسلحوها ذرعا بهم وقاموا باعتراض هؤلاء الجنود الذين ليست لديهم فكرة واضحة عن حجم هذه الحرب التي قد يدخلون فيها.

حدثت اشتباكات متبادلة، سقط قتلى وجرحى من الطرفين.

تلك المظاهرات، ربما كانت قد أعطت هؤلاء الجنود فكرة أولية عن كل شيء ومنحتهم الطاقة الكافية لخوض مغامرة قل مثيلها. فالمعركة كان يجري الإعداد لها في محيط معسكرهم.

الأخبار تقول أن معظم أركان اللواء انحازوا للمليشيات، جميع القادة تقريبا ومعظم أفراد الكتائب فعلوا نفس الشيء، وهناك من قاد وساطات تهدف إلى إقناع القائد الجديد بالتسليم كما فعل باقي القادة من زملائه.

وستظهر حقائق في وقت لاحق عن حجم الإغراءات التي ستقدم لهذا القائد لكي يرضخ، على شكل وعود بالترقية وامتيازات خيالية، ومبلغ مائة مليون ريال سوف تسلم له كاش.

لكن حاليا وبينما المشاورات قائمة، لم يكن هناك من يعرف عن هذا القائد شيئا، ولا حتى عن موقفه مما يجري.

الجميع أعتقد أن المسألة قد حسمت ولن يقوم لهذه المدينة قائمة بعد اليوم.

 

 

وأثناء تغلغل الإحباط في النفوس وانهيار المعنويات، كان القائد الذي سيكتب لهذه المدينة تاريخا جديدا، لا يزال متمسكا بمواقفه، رغم أنه لم يتبقى حوله سوى عدد محدود من الضباط وعدد آخر من الجنود. القوام النهائي لهؤلاء مجتمعين بالكاد يشكل كتيبة عسكرية.

كانت المحصلة 600 جندي وضابط وقائد عنيد لديه ما يكفي من روح المغامرة.

وخلفه ملايين العيون المترقبة بخوف وقلق.

اندلعت الحرب في محيط مقر اللواء.

سمع الجميع الخبر ولم يهتموا كثيرا.

لو أن اللواء بكامله واجه المليشيات والقوات القادمة على مدى أسبوعين إلى جانب القوات التي كانت جاهزة داخل المدينة وانحازت بمجرد إشارة، للمليشيات، فإن هذا لن يحدث فارقا، ما بال والمعلومات تقول أن أقل من كتيبة هي من ترفض تسليم مقر اللواء.

 

 

مرت أيام وكانت الأخبار تتوالى عن صمود أولئك المغامرين.

بدأ الأمر يستحوذ على اهتمام البعض.

مرت أيام أخرى والقائد المغامر لا يزال صامدا.

أصبح الأمر يحظى باهتمام أكبر، الجميع أصبح يتابع الأخبار القادمة من أرض المعركة التي لم يعول عليها أحد.

في فترة الانتكاسات القوية، في زمن الإحباط الشديد، يمكن لإشارة عابرة طالما تمكنت من لفت الانتباه، أن تبعث الأمل من جديد. وهذا ما حدث تقريبا.

 

 

في قصة صمود اللواء 35 لم ينبعث الأمل من العدم وحسب، لقد استعادت الروح المتوثبة كامل طاقتها، وفتحت ثغرات واسعة في جدار التصلب المحكم.

البعض أصبح يراهن على هذا الصمود، البعض الأخر آخذ يسنده، وهناك من بدأ يستعد للحظة التالية.

عندما سقط مقر اللواء في يد المليشيات بعد نحو (20 يوم) من الصمود الأسطوري، كان أولئك الضباط والجنود ومن ساندهم، وذلك القائد الذي أصبح الجميع يحفظ أسمه، كانوا قد قاموا بدورهم على أكمل وجه.

يكفي أنهم بعثوا الأمل من بين مخالب اليأس الذي كان قد أخذ يتسلط بتجبر لا مثيل له.

 

ذلك القائد ويدعى عدنان الحمادي، كان من بين آخر من غادروا المعسكر، بعد أيام من الجوع والعطش.

لكن قبل مغادرته كان قد حرص على إخراج كل الأسلحة التي من الممكن إخراجها من مقر اللواء ووزعها على كل الذين تطوعوا وقدموا لمساندته.

 

 

بخبرة القائد الذي لا يخون شرفه العسكري، ولا يخون القيم الوطنية وقبل ذلك المتصل بأبناء الشعب والمعجون بهمومهم، كان الحمادي بذلك قد آخذ يؤسس للمرحلة الثانية من القصة التي لن يصدقها أحد.

غادر القائد المعسكر، بفعل إصرار من تبقوا إلى جواره، فقد خلعوا بذلته العسكرية وجعلوه يرتدي أخرى كانت لأحد الجنود، سيشتكي في وقت لاحق من أنها كانت ضيقة، لكن ارتدائها كان مهم لكي لا يتعرف أحدا على هويته من خلال شكله الخارجي في حال وقع بيد العدو أو مخبريه.

أثناء قفزه من على سور مقر المعسكر، أصيبت إحدى قدميه، وكادت الإصابة أن تجعله يقع فريسة سهلة لمن قاتلهم وجها لوجه طوال أيام. تجالد القائد في ملابس جندي، وواصل المشي تحت جنح الظلام برفقة جندي أصر على أن يستقبله في منزله.

 

 

لكن بمجرد بزوغ خيوط الفجر أصر القائد على الخروج من المنزل الذي كان غير بعيد من مسرح المعركة التي لا تزال قائمة.

لكن الإصابة لم تسمح له بالابتعاد، فقد القدرة على التقدم خطوة واحدة، فاستلقى في العراء، غير بعيد من الأعداء.

فقد فشلت توسلات الجندي في إقناعه بأن يبقى في منزله.

على القائد العسكري ألا يكون مبالغا، وفي الأوقات الصعبة من المهم التحلي بقدر من الواقعية وآخذ الحيطة.

مع حلول المساء كان القائد في ملابس جندي لا يزال مستلقيا في العراء بفعل الإصابة والإجهاد.

في مكان لا أحد يعرف عنه شيئا.

لكن أحد أهالي المنطقة ممن ظلوا يتابعون أخبار المعركة عن قرب، عثر عليه، وبحدسه عرف أن هذا هو الرجل الذي أصبح الجميع يتحدث عنه باعتزاز منقطع النظير.

قام الرجل بالواجب اتجاه القائد الحمادي وأحضر له ملابس مدنية ثم بعد ذلك نقله إلى مكان سري داخل المدينة، وبمجرد أن يتعافى ستكون البذرة قد نمت والمقاومة المسلحة قد اندلعت وهناك مهام لا يزال في انتظاره.

أما زملائه الذين أصروا على مغادرته وأكدوا له أنهم سيغادرون بعد إيهام القوات المعادية أن المعركة لم تنتهي بعد وتوفير الغطاء الناري اللازم قبل الانسحاب.

هؤلاء أيضا لا أحد يعرف عنهم شيئا، بينما تلك المليشيات المستميتة كانت قد أصبحت داخل المعسكر وتحيط به من أكثر من جهة، وقد دفعت كلفة خيالية للسيطرة على مقر لواء عسكري أصبح فارغا إلا من سيرة البطولة.

هؤلاء الجنود سينسحبون بعد أيام، لكن بعد أن كانوا قد كتبوا الفصل الأول من القصة التي لم يحدث لكاتب واسع الخيال أن فكر في كتابتها وإلصاق أحداثها بالواقع.

لكنه التاريخ الكاتب الأكثر عبقرية على الإطلاق، طالما أن هناك من يلتقطون اللحظة التاريخية ويخلصون لها بهذا الشكل.

ما حدث لم يكن فقط استنهاض للروح الثورية كيف ما أتفق، فقد تصدر مجموعة من الجنود والضباط المواجهة وبدعم مطلق من شباب الثورة والأحزاب السياسية، الأمر الذي أعاد الاعتبار لكثير من الأشياء دفعة واحدة. الاعتبار للعسكرية اليمنية، لمشروع الثورة، وأيضا للسياسة.

بعكس مثلا لو أن التصدي للمليشيات كان قد جاء عبر جماعة طائفية أو بنفس طائفي.

وهو الشيء الذي سيحاول إعلام الثورة المضادة في وقت لاحق ابتداعه من خلال استثمار بعض الظواهر السيئة التي نشأت بسبب عدم تنظيم العمل المسلح.

حيث ستجد مجموعات متطرفة صغيرة المجال مفتوحا لتتواجد في تعز، وأيضا من يصرح بأنه يقاتل لاعتبارات طائفية.

حسنا بعد أكثر من ثلاثة أعوام ونصف على تلك المعركة، يبدو أن القصة لا تزال في فصولها الأولى.

خرجت عن النص أحيانا، طرأ عليها تحول درامي في كثير من الأوقات، لكن روح البداية لا تزال حاضرة وتقاتل، وعما قريب سيكون قد أصبح لدينا قصة مكتملة وبهية، ستقرئها الأجيال المتعاقبة بفخر لطالما كان هذا وعد الآباء والأجداد.

111111111111111111111


جميع الحقوق محفوظة لدى موقع الرصيف برس