شهوة القتل!

الثلاثاء 02 ابريل 2019 - الساعة 11:25 مساءً

مثّل إحراق ساحة الحريَّة بتعز اليمنية، في 29 أيار/مايو 2011، في ذروة الزخم الثوري الذي ارتفع معه قمع "جيش" صالح لأعلى مستوياته، صدمة لكثير من النخب والمواطنين على اختلاف توجهاتهم، وقد تأثرت شخصيًا، بتنامي القمع الذي كشف عنصرية نظام صالح، خصوصًا إحدى المسيرات التي خرجت بعد حرق ساحة الحريَّة، والتي ووجهت بقمع وحشي، طال النساء بصفة خاصة، حيث تعرضن للضرب والإهانة والسب بألفاظ نابية، قذفت بها نساء تعز عامةً، في تجسيد وقح للعنصرية، ومطاردة المتظاهرات وضربهن، وإطلاق الذخيرة الحية على زملائهن الذين حاولوا إنقاذهن، بعد محاصرتهم في الأزقة والشوارع الجانبية.

 

 

وعلى وقع هذه التراجيديا وبكاء زميلات الثورة، وكآباء الثورات، قرّرت أن اللحظة تستوجب الكفاح المُسلح لردِّ الإهانة واسترداد الحقّ، وأجريتُ اتصالات بعدد من شيوخ القبائل المنضمين للثورة أحثهم على الانتقام لكرامتنا، وفيما كُنتُ أجول ذهابًا وإيابًا وأصرخ منشدًا حيلةً تحقق الغرض، قاطعني مذيع شهير مشهود له بالتفاهة، طالبًا التروي قبل الانجرار في خيار المواجهة المسلحة، وحين اعترضت قال: "لن تنتصروا على أصحابنا بالسلاح، بل بسلميتكم"، ظننت أن زميلي المرتبط سلاليًّا وسياسيًا وعنصريًا بالحوثي، وجهويًا بالشمال القبلي، يعلي من شجاعة قومه، لكنه رد قائلًا: لستُم مثلنا، أنتُم سلميون.

 

احتفظت بذكريات بلهاء عن زميلي، وهذه العبارة، التي تجفل برأسي كلما هدرت مدافع، وطقطق رصاص في الشوارع القريبة، وتجفل برأسي وأنا أكتب هذه الأسطر، على وقع القصف والقتال في مدينتي "المحررة"، التي تبلغ مساحتها بضعة كيلومترات، فأفكر وأنا أسمع التراشُق بين "المقاومين" بصواريخ لو، ومضادات الطيران، والدروع، وأسلحة ثقيلة ومتوسطة، في حرب "صغيرة" بين شمال المدينة وجنوبها، يهتزُّ لوقع انفجاراتها وأنين ضحاياها منزلي القابع بينهما، وسط المدينة الصغيرة الأشبه بمنقلة مقلوبة.

 

 

وأتذكر "شهوة القتل"، لم أستطع تفسيرها قبلًا، لكن الأمر كان أسهل عند إسقاطه على قبائل "شمال الشمال"، أو كما كانت تقول "القبيلة الماركسية" في جنوب يمن ما قبل 1990، لكنه عصي على الفهم عند إسقاطه على مدينتنا، وثقيل هو السؤال: هل تعز أيضًا مُحاطة بقبائل طوق هي الأخرى، كحال أخواتها: صنعاء وعدن!

 

بعد هروبي بحياتي التي هُددت بخسارتها ثمنًا لاحتجاجي على هذه الجريمة، زرت في أحد الأرياف، الأستاذ أمين الأصبحي، وهو رجل دولة مرموق سابقًا، وسياسي ومثقف محمود بعصارة التجربة، فأجابني كفافًا بالقول: يا ولدي، نحنُ في اليمن صنفان، الأول قبيلي يولد ومعه ثأر، والثاني رعوي "فلاح" يولد ومعه شريعة – والشريعة في الدارجة ما يطلق على ضنك التقاضي والمشاكاة – ونحن مقيضان لذلك، فأما القبيلي، فإما طالب دم، أو هارِب من ثأرٍ لدم، وفي كلا الحالين هو قاتل أو مقتول، وأما الرعوي، فإما مُدعٍ أو مُدافع، وفي كلا الحالين هو مُطالِبٌ أو مُطالَب، وتنقضي حياتنا على هذا الدأب الذي كرسه المستبدون على هذا البلد، وبهذا يسهل القتل عند القبائل، وتسهل الشكاية عند الرعيَّة.

 

 

لكن، وإني أراحتني هذه الإجابة قليلًا، فما تزال قدمها القصيرتين، أعجز من أن تعبر الفجوَة في عقل "رعويّ" مثلي، لم يفهم، كيف أن عشرات السنين من السُّكنى في "تعز" المدينة، لم تُمدن أحفاد القبائل القاطنين في شمال المدينة وجنوبها، ولم تقتُل شهوَةَ القَتًل في ضمائرهم، كما لم تقتُل نازع الشكاية والاحتجاج في طبيعتنا، والتي رُغم كراهتي الشديدة تعدمني الحيلة، وتُعيدني متوسلاً بها كلما فاض الكيل وتقطعت بي الأسباب.

111111111111111111111


جميع الحقوق محفوظة لدى موقع الرصيف برس