في الصباح أكون

الجمعه 14 ابريل 2017 - الساعة 07:59 صباحاً

 

في الصباح اكون وعمتي فقط في البيت؛ عمي في عمله وشقيقتي في المدرسة. كنت اذهب الى المدرسة بعد الظهر مثل كل الصبيان في مرحلتي. بعد طلاق والديّ حين كنت في الثالثة ربتني عمتي التي حُرمت من نعمة الاطفال. تطلب مني عمتي الذهاب لشراء روتي؛ فقط قطعتي روتي، ما يكفينا انا وهي. وذلك لم يكن يجعلني سعيداً. كنت اشعر بالحرج لأني اشتري فقط تلك الكمية الضئيلة. كنت احسد جاري (كنا بعمر واحد) لأنه يشتري دائماً كمية كبيرة، دون ان اضع في الاعتبار عددهم الكبير في البيت. لعلها واحدة من الامنيات الساذجة، ان لا اضطر لشراء هذا العدد الهزيل؛ اثنين او ثلاثة. حيث يلفهم البائع بورق جريدة عليها كتابات صينية وصور اسيويين، بينما رفيقي يعود بكيس ممتلئ. في باب الفرن، اتردد في الدخول، افكر اني سأبدو مضحك، كنت بالفعل كما لو اني اشعر بالعار. سأطلب منه اثنين. احياناً كنت اسئله اربعة بدلاً من ثلاثة، وهذا يجعل عمتي تشتط غضباً، لأنها طلبت مني ثلاثة او اثنين. مازلت اتذكر البائع اسمه عبدالرحمن، وهو سمين بعض الشيء؛ لديه كرش ووجه مثلث منتفخ بين الفم والعينين، شعره اجعد وانفه مقوس. كان ذلك اليوم يتحدث الى شخص بجانبه، وهو ما زاد الامر سوءاً بالنسبة لي. سأبدو مضحكاً امام شخص اخر غير البائع. كان الكبار يبدون لنا ذو هالة رهيبة. ترددت طويلاً قبل الدخول الى الفرن، واخذ مني الوقوف في الرصيف بعض الوقت منزوياً بانتظار خروج الرجل. لكنه لم يخرج. دخلت بتثاقل، اريد للارض ان تنشق وتبتلعني. ياله من كابوس ثقيل يتردد يومياً. وقفت بجانب الصندوق الزجاجي الذي يفصل البائع عن الزبائن، وخلفه الفرن منطفئاً بينما صناديق فارغة حيث توضع قوالب العجين ليخرج الروتي باشكاله المألوفة. وقفت خائفاً وصامتاً، انتظر الوقت المناسب لأطلب منه: اثنين روتي. ظل فترة دون ان يولني انتباهه، لأنه في العادة الزبائن يضعون امامه ا لنقود ويطلبون ما يريدونه. انا بقيت بفم فاغر اعجز عن قول شيء. فجأة بعد لحظة طويلة: ايش تشتي؟ قال بصوته الاجش. كان المشهد الأكثر رعباً؛ دفعت يدي المرتعشة ورقة من فئة الخمسة ريال، كنت اشعر بالاذلال حتماً، بكل اشكال العذاب، اتمنى حدوث شيء يخفيني "هات اثنين روتي." قلت بصوت منكسر، بشعور من الاذلال يشد رأسي ويوبخني بعنف. اخذ قطعتي روتي يابستين وابتسم لرفيقه. كان وجهه قلما يبتسم. كنت اتمنى ان اذهب واترك الباقي لديه، لكن ذلك سيعرضني لكل انواع اللهجات انتقاداً. وهو لانشغاله بالحديث مع رفيقه نسي اعادة الباقي. وقفت هناك، حائراً كيف سأخبره بإعادة ثلاثة ريالات باقي الخمسة. ياله من شعور بالخرس تملكني. التفت لي: مالك ايش في معك هنا؟ "الباقي." قلت بصوت يصعب سماعه. "ايش؟" سأل. رفيقه قال لي بلطف: مالك مفجوع قول ايش تشتي." كررت ما قلته. عدت بقطعتي روتي يابستين لا تصلحان للأكل تقريباً. مرت عشرين دقيقة او نصف ساعة منذ خروجي في مشوار يتطلب بضعة دقائق. وكانت عمتي تشتعل من الغضب، وتضاعف غضبها حين لمست الروتي. "اوصيك لراس الشارع تدي روتي ترجع بعد ساعتين بحجار.." حاولت تبرير الامر "مافيش الا هذا الروتي." اجبت بصوت منحسر كما لو شيء يمرغ حلقي. "هيا يا اهبل روح رجعه واشتري شي للاكل مش يكسر الاسنان، وارجع بالمغرب.." استمر صارخها، وكنت اعرف ان تهكماتها لن تتوقف طيلة اليوم. كان البائع مازال يتحدث الى رفيقه، لكني لم اتردد طويلاً، لأن عمتي غاضبة، وكنت دائماً افعل اشياء تجعلها غاضبة. اخبرته بنفس اللهجة المذعورة: قالوا لي الروتي مش تمام.. هات بداله. كنت اريد تبرير نفسي، بأني امرت باعادة الروتي، وليس خطئه. اذ كيف سيجدني شخصاً عديم الحياء، حين اقدم على اعادة قطعتي روتي. لانه لم يكن مخطئاً بالنسبة لي، بل خطئنا نحن، خطأ الواقع الذي يجعلنا نكتفي بهذا القدر فقط. اما عمتي المتهكمة وسريعة الغضب فكنت وجبتها المفضلة للتهكم.

111111111111111111111


جميع الحقوق محفوظة لدى موقع الرصيف برس