ملعونة هي الحرب دائما.. لاترحم ولاتبقي ولاتذر!

الاثنين 25 نوفمبر 2019 - الساعة 04:47 صباحاً

كنا إثنان ترجلنا من على السيارة وإصطفينا مقهى قريب تعودنا الجلوس على طاولاته المحاذية للرصيف.. نشرب الشاي كالمعتاد مابين أذانين يشقان الأفق.. 

يكاد يكون الشارع معتما إلا من عمود إنارةٍ بضوءٍ شحيح، يقف مهزوما، وخجلا نهاية الشارع المكتض بالحرب،وآثاره وغصصه التي لاتنتهي.. 

 

كنا لانزال نقهقه ونحن نتجاذب أطراف حديث يبدو ممل، وسامج ومكرر،حين وقعت أعيننا على أحدهم ملقيا على الأرض.. أنينه مكتوم، ووجهه مختبيء بذراع عاري وجسدٍ مغطى بالأسمال.. كان يتلوى الما على الرصيف المقابل.. سحبت صديقي دون أن أعلق ومشينا بأتجاه الرجل الراقد بوجعه.. سألناه: 

- مابك.. ما وجعك.. مما تشتكي؟! 

لكنه لم يجب، ولم يكشف عن وجهه..ظل يتلوى ألما وكأنه إستبدل الكلمات بالأوجاع.. مر بجوارنا أحد الجنود وانضم الينا محاولا معرفة الرجل ومساعدته.. لكنه أيضا رفض التحدث اليه والكشف عن وجهه، وظل يئن ويئن حتى غلبت دموعه أنينه.. 

بدون أن نفكر أو نتحدث، ثلاثتنا قررنا أخذه إلى إحدى المستشفيات القريبه.. حملناه بأيدينا.. كان نحيلا، باردا، ذليلا، مكسورا ومتسخا بما يكفي لأن يشمئز من منظره بعض مناوبي قسم الطواريء غريبي الأطوار. 

 

جاء الطبيب المستلم وطلب عمل تحاليل دم وأشعة.. تركته لصديقي والجندي والطبيب.. وذهبت لجلب المال ولباسٍ ولحاف.. حينما عدت كانت نتائج التحاليل قد ظهرت"التهابات حادة في الأمعاء وتقرحات في المعدة"..

لم أعرفه.. وتفاجأت بأن صديقي والجندي وآخرين قد قاموا بتنظيف جسده وبدلوا له ملابس تبرع بها أحد المرضى الراقدين في القسم.. أعطاه الطبيب بعض المهدئات والأدوية في وريده المتشنج.. وانتظرناه حتى خف وجعه وبدأ يعود إلى وعيه.. 

أخبرنا بصوت مبحوح متحشرج ويده اليسرى ترتعش محاولة إخفاء دموع قهر وإمتنان، ومشاعر لايفهمها إلا جيل الحرب واللعنة.

 

لاحظنا فقدان ذراعه الأيمن وسألناه عنها.. فأجاب مبتسما: 

- كان لنا بيت وكنت المعيل الوحيد لأمي المطلقة منذ عشرين عاما.. فدمرتنا الحرب بأسلحتها وقذائفها.. وكان منزلنا هدفا سهلا لمقذوف "حوثي" لعين.. بترت بسببه ذراعي ودمر منزلنا وشردت أمي وفقدت عملي بعدها. 

 

كيف لرجلٍ أن يصمد بين كل هذا الخراب، ووطنه يتسحب من بين يديه كدخان!

الأم وطن.. والرزق وطن.. والأمان وطن.. حيث لا وطن يلم شتاتنا.

قال لي وهو يشد على يدي ممتنا: كيف لنا أن نصمد ونحن ركام! 

حيث لا مأوى يليق، ولا ماء ولا ضوء،أو مصدر رزق يقيك الذل والحاجة! 

وشكرني بكلمات لم أسمعها،وأنا أحاول جاهدا أن لا أفقد صوابي وأبكي كطفل..

"حين يبكي الرجال يصبح العالم لعنة"! 

كان قد إستعاد شيئا من قوته فحملناه بعد إن إنتهى الطبيب من علاجه وأعطيناه ماجمعنا من مال وملابس،فطلب أن نتركه في سبيله وأن لانفتش وراءه.

 

تركناه يرحل بظل مائل وخطى متعثرة. 

 

كنت قد تعودت أن أرى مناظر تدمي الروح،في كل شارع وحي وزقاق أمر به.. وكانت الحرب قد أكلت من أعمارنا وشربت،جميعنا دون إستثناء أو إستحياء..

لكننا كنا نمضغ" القات"؛ لنطبط على جراحاتنا وننسى! 

 

حتى صاحب الذراع الواحد رأيته بعد ذلك مرات عدة يتكيء على الرصيف،يطبط على نفسه بأوراق"القنظقات".. ولا يبالي مطلقا.. وأظنه أيضا لن يبالي بشكل الوطن الذي ظلمناه وداسنا جميعا!

111111111111111111111


جميع الحقوق محفوظة لدى موقع الرصيف برس