أشلاء في الزاوية المعتمة».. تقرير استقصائي يوثق جريمة مقتل خمسة أطفال في العرسوم بتعز
الجمعه 01 أغسطس 2025 - الساعة 06:13 مساءً
المصدر : الرصيف برس - منظمة سام

الواقعة: انفجار قذيفة في منطقة العرسوم بتعز.
التاريخ: 11 يوليو 2025
الضحايا: خمسة أطفال قتلى وعدد من الجرحى المدنيين.
الجهة المسيطرة على المنطقة: جماعة الحوثي.
*مقدمة*
في مساء الجمعة 11 يوليو 2025، شهد حي العرسوم – أحد الأحياء السكنية المكتظة في مديرية التعزية بمحافظة تعز – انفجارًا عنيفًا أسفر عن مقتل عدد من الأطفال وإصابة آخرين. تأتي هذه الحادثة المؤلمة في سياق بيئة أمنية حساسة، تشهد فيها المنطقة نشاطًا عسكريًا متكرّرًا، وتقع بالكامل تحت سيطرة جماعة الحوثي، ما يضع الحادثة ضمن نطاق مسؤولياتها الإدارية واللوجستية المباشرة.
الانفجار أثار موجة من ردود الفعل الغاضبة، لكنه في الوقت ذاته فتح بابًا واسعًا للتساؤلات الفنية والحقوقية حول الملابسات التي أحاطت به، وطبيعة المقذوف المستخدم، والجهة التي يمكن تحميلها المسؤولية المباشرة عنه.
في ظل الاتهامات المتبادلة بين أطراف النزاع، تتوارى الحقيقة خلف جدران من الإنكار والتوظيف السياسي، ما يعقّد الوصول إلى رواية دقيقة لما حدث بالفعل في حي العرسوم. وبينما يسارع كل طرف إلى تحميل المسؤولية للآخر دون تقديم أدلة فنية موثوقة، تتعرض ذاكرة الضحايا لخطر الطمس، وتصبح مأساة الأطفال ساحة جديدة للصراع الإعلامي. وفي مثل هذا السياق المشحون، تبرز الحاجة الملحّة لتحقيق مستقل ومحايد، يُعيد الاعتبار للوقائع بدلًا من الخطابات، ويمنح الضحايا حقهم في سردية قائمة على العدالة لا على المزايدات.
بطبيعة الحال، واجهت عملية التوثيق المباشر للحادثة تعقيدات ميدانية بالغة، بالنظر إلى وقوعها في منطقة تخضع لسيطرة جماعة الحوثي، ما حال دون وصول فرق مستقلة إلى موقع الانفجار، أو إجراء تحقيق ميداني محايد، ورغم سعي المنظمة للحصول على شهادات من السكان المحليين، فإن الإفادات المتاحة كانت شحيحة ومحدودة، وتفتقر إلى التفاصيل الجوهرية التي يمكن البناء عليها لتكوين صورة دقيقة عن مجريات الحادثة.
وبسبب هذا النقص الحاد في المعلومات المباشرة، اضطرت المنظمة إلى الاعتماد على مصادر مفتوحة – من صور ومقاطع مرئية وتحليلات متاحة – لمحاولة تفكيك تسلسل الجريمة، وفهم ما حدث للأطفال الضحايا، دون السماح بتضييع الحقيقة في متاهة الاتهامات المتبادلة أو التوظيف السياسي الممنهج.
*الواقعة*
في تمام الساعة السادسة والنصف من مساء الجمعة، الموافق 11 يوليو 2025، وقع انفجار وسط حي العرسوم، حيث كان عدد من الأطفال يلهون بجانب منازلهم. وقد تسبب الانفجار بتمزيق أجسادهم وإحداث إصابات بالغة، إضافة إلى تضرر جزء من البنية السكنية المحيطة. الحادثة وقعت في وقت لم تُسجّل فيه اشتباكات مباشرة أو قصف متبادل في المنطقة، ما جعلها حدثًا مفاجئًا من حيث التوقيت والسياق.
*الضحايا*
أسفر الانفجار عن مقتل خمسة أطفال من سكان حي العرسوم، تراوحت أعمارهم بين الثانية عشرة والرابعة عشرة. من بين الضحايا الطفل أسامة أبو بكر أحمد علي، البالغ من العمر 12 عامًا، والطفل مبارك ياسر علي الشرعبي، البالغ 14 عامًا، إضافة إلى بشير أكرم محمد الفضلي، ويبلغ من العمر 13 عامًا، وأنس جواد محمد صالح، البالغ 14 عامًا، وكذلك أحمد علي مقبل العتمي، الذي لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره. جميعهم قضوا على الفور نتيجة الانفجار.
*سيناريوهات متضاربة: أيهما أقرب للحقيقة؟*
تعددت الروايات حول طبيعة الانفجار الذي أودى بحياة خمسة أطفال في حي العرسوم، وتباينت السيناريوهات بين اتهام مباشر للقوات الحكومية بإطلاق قذيفة من منطقة عصيفرة، مقابل رواية مضادة تُرجّح أن الانفجار نجم عن مقذوف من مخلفات سابقة داخل المنطقة. هذا التناقض يفرض ضرورة فحص كل سيناريو وفق معطياته الفنية، وموقع الإطلاق المفترض، ونوع السلاح المستخدم، بهدف التوصل إلى قراءة تستند إلى الوقائع الميدانية وليس إلى الخطاب الدعائي لأي من الطرفين.
*السيناريو الأول: قذيفة ساقطة من موقع خارجي*
وفقًا للمشاهد وإفادات الشهود الذين عرضتهم قناة "المسيرة" التابعة لجماعة الحوثي، فإن القذيفة التي انفجرت في حي العرسوم تعود إلى نوع هاون تقليدي عيار 82 ملم، والذي يبلغ أقصى مدى له 3040 متراً، وفقًا للبيانات العسكرية القياسية.
تكتسب هذه المعطيات الفنية أهمية خاصة عند تقييم إفادة الشهود الذين عرضتهم قناة "المسيرة" التابعة لجماعة الحوثي، حيث أفاد ثلاثة أشخاص بأن القذيفة أُطلقت من المجمع الحكومي بمنطقة عصيفرة، الخاضعة لسيطرة القوات الحكومية.
استنادًا إلى المعطيات الطبوغرافية، فإن المسافة بين نقطة الإطلاق المفترضة وموقع السقوط في حي العرسوم تُقدّر بـ 2245 مترًا، مع فارق ارتفاع يبلغ 109 أمتار لصالح موقع الإطلاق، وهذه الأرقام تضع المسافة ضمن النطاق الفعلي لقذيفة هاون من عيار 82 ملم، التي لا يتجاوز مداها الأقصى في الظروف المثالية 3034 مترًا، وبالتالي فإن الفارق في الارتفاع هنا يمنح المقذوف قدرة إضافية على قطع هذه المسافة دون الحاجة لتعديل الذخيرة أو استخدام أنواع متطورة.
من الناحية النظرية، فإن هذا السيناريو مقبول فنيًا، إذ أن فرق الارتفاع يُخفف من متطلبات الدفع، ويسمح بتحقيق المسافة المطلوبة مع الحفاظ على زاوية سقوط مرتفعة، وزاوية السقوط في هذه الحالة، وفق الحسابات التقريبية للمسار الباليستي، تتراوح غالبًا بين 70 إلى 75 درجة، وهي زاوية حادة يُفترض أن تُنتج نمط انفجار متماثل، بحفرة عمودية نسبيًا، وتوزع دائري للشظايا والركام في محيط السقوط، بحسب خبير عسكري تحدث إلى سام.
لكن، وعلى الرغم من أن هذا السيناريو يبدو ممكنًا من الناحية الفيزيائية، إلا أن تقييمه يظل ناقصًا دون معاينة ميدانية حقيقية لموقع الانفجار، فالفحص الفني لمسرح السقوط يجب أن يؤكد توافق شكل الحفرة، واتجاه الغرس، ونمط التشظي، مع الزاوية والاتجاه المتوقعين بناءً على خصائص المسار، وأي انحراف جوهري في زاوية الغرس أو نمط الأثر المحيطي قد لا يُعد بالضرورة نفيًا لسيناريو الإطلاق، لكنه يُضعف من دقته ويضع علامات استفهام تتطلب فحصًا متخصصًا، وعلى هذا الأساس، فإن القبول بهذا السيناريو يجب أن يظل مشروطًا بتحليل موقعي حقيقي، لا يقوم فقط على الحسابات النظرية، بل على تطابق المعطيات الفيزيائية مع الواقع الميداني.
وعلى الرغم من أن الرواية التي تبنّتها قناة "المسيرة" اعتمدت على شهادات محلية، إلا أن بعض هذه الإفادات تثير شكوكًا جدية بشأن مصداقيتها، فقد أشار ثلاثة من الشهود، في تقرير القناة، إلى أن القذيفة أُطلقت من المجمع الحكومي في منطقة عصيفرة، وهو تحديد جغرافي بالغ الدقة يصعب أن يصدر عن مدنيين غير مختصين، حيث أن معرفة مصدر إطلاق قذيفة هاون في بيئة حضرية معقّدة، يتطلب خبرات فنية وأدوات تحليل صوتي وبصري لا يمتلكها المواطن العادي، وحتى لو كان بالإمكان رصد الاتجاه التقريبي عبر الصوت أو الوميض، فإن الجزم بموقع الإطلاق بهذه الدقة يُعد غير منطقي، ما يرجّح أن يكون الشهود قد تلقوا توجيهًا مسبقًا أو تم تلقينهم هذه الرواية، في ظل غياب أي تحليل فني يدعمها.
إضافة إلى ذلك، يلاحظ أن قناة "المسيرة" لم تعرض أي مشهد تصويري متصل أو بانورامي يُظهر زاوية انغراس القذيفة أو اتجاهها اللحظي بالنسبة للمباني أو التضاريس المحيطة، ووهو ما يُضعف من القيمة التوثيقية للادعاء، خاصة وأن زاوية الغرس تُعد من أبرز المؤشرات الفنية على اتجاه الإطلاق، ويمكن أن تكون عاملًا حاسمًا في ترجيح رواية على أخرى، وعليه؛ فإن عدم تضمين هذه التفاصيل ضمن التغطية الإعلامية – رغم إمكانية رصدها ميدانيًا بسهولة – يُعدّ ثغرة في عرض الرواية، ويعزز من أهمية الحاجة لتحقيق ميداني فني محايد يتعامل مع المعطيات الموضوعية على الأرض، بدلًا من الاعتماد على شهادات قد تكون خضعت للتوجيه أو التأويل.
*السيناريو الثاني: مخلفات غير منفجرة*
يفترض هذا السيناريو أن الانفجار الذي أودى بحياة الأطفال في حي العرسوم لم يكن نتيجة قذيفة أُطلقت لحظيًا من موقع خارجي، بل ناجم عن مقذوف كان موجودًا سلفًا في المنطقة، ضمن ما يُعرف بـ"المخلفات غير المنفجرة". ويُقصد بذلك القذائف أو الذخائر التي لم تنفجر عند استخدامها الأول، أو التي تُركت عمدًا أو عن طريق الخطأ في مناطق مأهولة عقب انسحاب عسكري أو استخدام ميداني سابق.
من الناحية الواقعية، تكتسب هذه الفرضية قدرًا من الوجاهة بالنظر إلى طبيعة النزاع في اليمن، حيث تتكرر الحوادث الناجمة عن وجود ذخائر غير منفجرة في المناطق السكنية أو المحيطة بها، سواء نتيجة زرع ألغام أو إطلاق قذائف لم تنفجر، أو بسبب استخدام أحياء مأهولة كمناطق انطلاق أو تخزين عشوائي لمواد عسكرية.
وإذا ما أُخذ بعين الاعتبار أن منطقة العرسوم خاضعة لسيطرة جماعة الحوثي، فإن ذلك يضع على هذه الجماعة مسؤولية مضاعفة تتعلق بتأمين البيئة المدنية من أي مخاطر عسكرية كامنة، بما في ذلك إزالة الذخائر غير المنفجرة وتطهير المواقع التي سبق استخدامها لأغراض قتالية.
ورغم أن هذا السيناريو لا يُسقط تلقائيًا مسؤولية أي طرف من أطراف النزاع، إلا أنه يقدم تفسيرًا بديلًا لانفجار لم تسبقه مشاهد مباشرة لسقوط قذيفة، ويستند إلى سياق أمني ميداني يجعل من احتمال وجود بقايا ذخائر في المنطقة فرضية قابلة للفحص الفني.
هذه الفرضية تستند إلى عدة مؤشرات يمكن سردها كما يلي:
*الإصابات كبصمة للعبوة المنفجرة*
بالاطلاع على صور الأطفال الضحايا، يظهر بوضوح أن الإصابات تركزت بشكل رئيسي على الأطراف السفلية، عبر بتر كامل أو تهتك شديد، وهو نمط من الإصابات لا يتسق مع انفجار قذيفة هاون ساقطة من أعلى، والتي تُحدث عادة نمطًا انفجاريًا دائريًا واسع النطاق، وتشمل الإصابة الرأس والصدر بالتوازي مع الأطراف، وعليه؛ فإن التركز الحاد للإصابات في الأرجل دون تهتك مماثل في بقية الجسد، يُشير إلى انفجار تمّ على مستوى منخفض جدًا أو قريب من الضحايا بمسافة أقل مما أظهرته الفيدوهات المنشورة عبرقناةالمسيرة، حيث ظهر أن موقع القذيفة المزعومة في مكان يبعد أكثر من 6 أمتار عن موقع الضحايا، ما يرجّح فرضية أن الانفجار ناتج عن جسم متفجر كان على الأرض أو مدفونًا فيها – كمخلفات حرب أو عبوة ناسفة محلية.
هذا النوع من التفجير يُحدث أثرًا اتجاهيًا محدودًا ومباشرًا، ويُفسّر نمط التمزق الموضعي، دون انتشار شظايا على نطاق واسع. وبذلك، فإن النمط التشريحي للإصابات يُضعف سيناريو سقوط قذيفة من مسافة بعيدة، ويُعزّز فرضية الانفجار الأرضي، ما يستدعي فحصًا جنائيًا دقيقًا لموقع الانفجار وأثره المباشر.
*تلاعب محتمل بمسرح الانفجار*
في أعقاب الانفجار ظهرت مشاهد مصورة أولية لموقع الحادثة توثق اللحظات الأولى بعد الانفجار. اللافت أن تلك المشاهد، التي سُجلت فور وقوع الانفجار، لم تُظهر إطلاقًا وجود أية حفرة في الأرض، وهي المعلَمة الفيزيائية الأساسية لأي قذيفة تنفجر لحظة ارتطامها بسطح صلب أو ترابي.
يُلاحظ أن مشهد حفرة الانفجار لم يُوثّق إلا في اليوم التالي لوقوع الحادثة، وهو ما تؤكده الظلال المنعكسة في الفيديو المنشور، حيث يشير اتجاهها وطولها (نسبة طول الظل إلى طول الشخص تساوي 2 إلى 7) إلى أن التصوير جرى قرابة الساعة الواحدة ظهرًا، في يوم مختلف عن يوم الانفجار، وهذا التأخير اللافت يطرح تساؤلات جوهرية حول سبب غياب التوثيق الفوري للحفرة، سواء في الدقائق الأخيرة من نهار الحادثة أو خلال ساعات المساء، رغم أن طبيعة الحدث – مقتل أطفال – تُحتّم عادة توثيقًا عاجلًا في الميدان.
*لقطة شاشة توضح توقيت تصوير الفيديو بناء على انعكاس الظلال*
الأكثر إثارة للانتباه هو ما ورد على لسان أحد الشهود في تقرير بثّته قناة "المسيرة"، والذي قال بالحرف: "حفرنا وأخرجنا جناح المقذوف". هذه العبارة تقوّض صراحةً أي ادعاء بأن الحفرة الظاهرة هي نتيجة مباشرة لانفجار القذيفة، بل تعني بوضوح أن الذيل لم يكن ظاهرًا على السطح وقت الانفجار، بل تم استخراجه لاحقًا بعد حفر المكان، الأمر الذي يتنافى مع السيناريو الطبيعي لانفجار قذيفة هاون، والتي عادةً ما تنشطر وتتناثر أجزاؤها بفعل الضغط والشظايا، لا أن تبقى مدفونة في نقطة واحدة يمكن استخراجها بعد ساعات. يُضاف إلى ذلك أن ذيل القذيفة الظاهرة في الصور النهائية يظهر مثبتًا بزاوية مائلة، وفي حافة حفرة لا تحمل أي سمات تماثلية لانفجار فعلي، كالتشظي المحيطي، أو احتراق التربة، أو تقشر السطح المحيط من جهة المقدمة.
*غياب التغطية الفورية*
يُضاف إلى التناقضات الميدانية والبصرية التي شابت رواية جماعة الحوثي بشأن انفجار العرسوم، مفارقة زمنية لافتة في التغطية الإعلامية، تُثير بدورها تساؤلات مشروعة حول مدى اتساق الحدث مع رواية الطرف الذي يدّعي أنه ضحية.
فرغم أن الانفجار الذي أودى بحياة الأطفال الخمسة وقع قبيل المغرب، فإن أول تغطية إعلامية نشرها إعلام جماعة الحوثي جاءت متأخرة بما يزيد عن ساعتين، حيث لم تُصدر قناة "المسيرة" التابعة للجماعة أي خبر عاجل أو منشور حتى الساعة 7:49 مساءً.
وهذا التأخير، رغم ضخامة الحدث ووضوح طبيعته كـ"مجزرة بحق أطفال في منطقة خاضعة للجماعة" -وفقًا لادعاءات الحوثيين- يطرح علامة استفهام كبيرة حول السبب الذي حال دون التعجيل بنشر الخبر، خاصة أن الرواية الرسمية التي تبنّتها الجماعة تتحدث عن قصف مباشر من القوات الحكومية.
في السياقات الطبيعية للأحداث الميدانية، وخاصة تلك التي تُوظّف إعلاميًا لإدانة طرف خارجي، يُتوقّع أن يسارع الطرف المتضرر إلى النشر والتوثيق الفوري، لا سيما في بيئات إعلامية معتادة على إصدار الأخبار العاجلة، وتوظيف الصور خلال دقائق، لكن التأخر الملفت في نشر الخبر، وغياب أي توثيق مباشر للحظة الانفجار أو آثاره الأولى، قد يُفهم على أنه انعكاس لحالة من الارتباك المؤقت في التعامل مع الحدث المفاجئ، أو ربما حاجة زمنية لإعادة بناء رواية إعلامية متماسكة، قبل البدء بتعميمها للجمهور.
*التحكم في سردية الحادثة*
يُلاحظ أيضًا أن أول جهة نشرت عن الحادثة كانت "المسيرة عاجل"، الذراع الإخباري العاجل التابع لجماعة الحوثي، دون أن يُرصد أي منشور أو تعليق من الأهالي أو السكان المحليين على وسائل التواصل الاجتماعي أو المنصات الرقمية قبل ذلك التوقيت.
وتعد هذه مفارقة مثيرة للانتباه، خاصة إذا ما أُخذت في سياق أن الحادثة كانت مأساوية وفادحة، وشملت مقتل أطفال في منطقة سكنية، وهو نمط من الوقائع التي عادةً ما تُشعل ردود أفعال شعبية فورية وتوثيقًا عفويًا على المنصات المحلية.
وبالتالي فإن غياب أي توثيق شعبي مباشر، قد يشير إلى وجود قدر من التحكم في سردية الحادثة داخل المجتمع المحلي، ويُعزز الاحتمال القائم بأن جماعة الحوثي فرضت على الأهالي الصمت أو منعتهم من النشر الفوري، بهدف تأخير تدفق المعلومات حتى يتسنى لها تقديم الرواية الإعلامية التي تخدم مصالحها السياسية والعسكرية.
التناقض الزمني بين وقت الانفجار وتوقيت تصوير الحفرة، وتناقض المشاهد من حيث وجود الحفرة أو غيابها، فضلًا عن تصريح الشاهد بـ"استخراج الجناح بعد الحفر"، كلها عناصر تقوّض السردية التي قدمتها جماعة الحوثي حول طبيعة الانفجار، وتفتح احتمالًا كبيرًا بأن ما تم عرضه ليس إعادة توثيق للانفجار، بل إعادة بناء لمسرح الحادثة بغرض توجيه الاتهام السياسي والإعلامي نحو القوات الحكومية.
*خاتمة*
إن هذه الملابسات، عند قراءتها مجتمعة، لا تبرئ أي طرف بشكل نهائي، لكنها تدفع بقوة نحو ضرورة فتح تحقيق فني ميداني مستقل، يستند إلى تحليل واقعي لموقع الانفجار الحقيقي، وليس للمشهد المصوّر لاحقًا، بما يشمل نوع المتفجر المستخدم، وخصائص الحفرة الأصلية – إن وُجدت – ومقارنة ذلك كله مع الأثر الإنساني الناتج ومدى اتساقه مع رواية أي من الأطراف المتنازعة.
وفي ضوء المعطيات المتاحة، وما تكشفه الوقائع الميدانية والتناقضات في السردية الرسمية، تظل فاجعة العرسوم جرحًا مفتوحًا في جسد العدالة الغائبة، إذ إن استمرار تغييب التحقيق المستقل، وطمس الأدلة، وتوظيف الألم لأغراض سياسية، يُعد انتهاكًا إضافيًا لحقوق الضحايا وذاكرة المجتمع، وما لم يتم التعامل مع الحادثة بوصفها جريمة تستوجب المساءلة، فإن الإفلات من العقاب سيبقى القاعدة، لا الاستثناء.
*التوصيات:*
يوصي التقرير بضرورة فتح تحقيق ميداني فني مستقل ومحايد، تتولى إجراءه لجنة من خبراء الأسلحة والطب الشرعي والمحققين الميدانيين، وذلك لفحص الموقع الفعلي للانفجار، وتحليل طبيعة الأثر الميداني، ونمط التدمير، وانتشار الشظايا، وتحديد اتجاه المقذوف بناءً على الأدلة الفيزيائية فقط، دون الاعتماد على البيانات الإعلامية أو الروايات غير المدعّمة بالتحليل الفني.
كما يدعو التقرير إلى إجراء مسح جغرافي دقيق للمناطق المحيطة بموقع الانفجار ضمن نطاق لا يقل عن ثلاثة كيلومترات، وتحليل الخصائص الطوبوغرافية للمنطقة، وزوايا الإطلاق الممكنة، ومدى الرؤية بين الأطراف المتقابلة، من أجل التحقق من مدى منطقية الادعاءات التي تتهم القوات الحكومية.
ومن التوصيات الأساسية أيضًا، أن يتم جمع كل بقايا الشظايا المعدنية وبقايا المقذوف الموجودة في مسرح الانفجار، وإخضاعها لتحليل مخبري متخصص، بهدف تحديد مصدر تصنيعها، ونوع المواد المستخدمة فيها، وما إذا كانت ضمن ترسانة نظامية أو ضمن ذخائر معدلة محليًا، وهو ما يمكن أن يسهم في ربط نوع الذخيرة بجهة بعينها.
كما يشدد التقرير على ضرورة إجراء مقابلات ميدانية مستقلة مع سكان الحي، خاصة أولئك الذين تواجدوا في محيط الحادثة، على أن تُجرى تلك المقابلات بواسطة جهة محايدة، وفي ظروف آمنة تضمن حماية الشهود من أي ضغط أو تهديد محتمل، مع أخذ مخاوف السكان بعين الاعتبار، لا سيما في بيئة خاضعة لسلطة عسكرية قد تكون طرفًا في النزاع.
وفي إطار حماية المدنيين، يؤكد التقرير على أهمية وقف استخدام الأحياء السكنية كمناطق تدريب أو نقاط إطلاق نيران من قبل أي طرف، لما يمثّله ذلك من تهديد مباشر لحياة السكان، خصوصًا الأطفال. ويتوجب على الطرف المسيطر على المنطقة اتخاذ إجراءات عاجلة لإزالة أي ذخائر غير منفجرة، ونشر خرائط إنذار أو تحذير توعوي لتجنّب تكرار المأساة.
كما يدعو التقرير منظمات الإغاثة وحقوق الإنسان، بالإضافة إلى الجهات الأممية المختصة بشؤون الطفولة، إلى التدخل الفوري لتقديم الدعم النفسي والصحي والمادي لأسر الضحايا، والعمل على احتواء آثار الصدمة المجتمعية التي خلفتها الحادثة، عبر برامج طوارئ تتناسب مع حجم الضرر الإنساني.
ويُوصي التقرير بإدراج هذه الواقعة ضمن التقارير الدورية المعنية برصد انتهاكات القانون الدولي الإنساني، خاصة تلك التي توثق الانتهاكات المرتكبة ضد الأطفال في النزاعات المسلحة، باعتبارهم الفئة الأكثر عرضة للخطر، والأكثر استهدافًا في البيئات غير المؤمنة، الأمر الذي يتطلب تحركًا دوليًا جادًا للحد من تكرار مثل هذه الجرائم.