الموازنات العامة في اليمن أرقام تبحث عن اقتصاد ام اقتصاد يبحث عن ارقام؟
الثلاثاء 29 يوليو 2025 - الساعة 08:42 مساءً
صدر مؤخراً قرار دولة رئيس الوزراء رقم 10 لسنة 2025 بتشكيل اللجنة العليا للموازنات العامة للسنة المالية 2026، وذلك لدراسة ومناقشة وإقرار الإطار العام للموازنات العامة وكذا السقوف التأشيرية المتوقعة على مستوى وحدات السلطتين المركزية والمحلية في ضوء تقييمها للمؤشرات الأساسية للاقتصاد الكلي (الناتج المحلي الإجمالي، ميزان المدفوعات، العرض النقدي) والتوقعات المتعلقة بها للسنة المالية ٢٠٢٦م وفي ضوء السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية للدولة.
تلك خطوة يفترض أن تمهّد لرسم سياسة مالية تخدم الاستقرار والتنمية، لكن هل يمكن لموازنة أن تنجح في ظل غياب شبه كلي لاقتصاد حقيقي؟
القرار اشار الى الاخذ في الاعتبار الواقع اليمني من حرب وخطط تعافي وهذا يعني التخطيط في ظل غياب قطاع اقتصادي منتج ومستقر غير قادر على أن يُرفد الخزينة العامة بالإيرادات السيادية!!!!!
والأخير يتناقض تماماً مع الفقرة السابقة لها، بل وتؤكدها.
كيف يمكن استخراج المؤشرات الحقيقية للاقتصاد الكلي في ظل غياب أنظمة معلومات من جهة ومن جهة أخرى في ظل اقتصاد غير رسمي أكثر منه رسمي؟
بطريقة اخرى.....
السؤالين الجوهرين الذان يفرضا نفسهما هنا:
كيف يمكن لوثيقة مالية أن تحقق أهدافها، في حين أن الاقتصاد نفسه لم يعد موجوداً إلا في خطب المسؤولين وتصريحات الإعلام الرسمي؟
ايضاً: هل تكفي القرارات الفنية لإنقاذ اقتصاد في غرفة الإنعاش؟ أم أننا بصدد وثيقة مجاملة لا تلامس واقعاً منهاراً؟
في ظل اقتصاد شبه ميت، وبنية تحتية مدمرة، وسلطات منقسمة، تبدو الموازنة أحياناً كترف إداري لا تملكه الدولة، أكثر منها أداة سياسة مالية لإحداث فرق.
الواقع أن الاقتصاد اليمني لم يعد متدهوراً فقط، بل تحوّل إلى اقتصاد أشباح، حيث تُدبَّر الموازنة من دون اقتصاد فعلي، ويُقدر الناتج المحلي في غياب إنتاج، وتُجمع الإيرادات من قطاع غير رسمي فوضوي بلا ضوابط ولا قواعد.
الاقتصاد في اليمن هو كلينيكياً في حالة موت دماغي، لكنه يُبقى على الأجهزة الإعلامية والتنظيرية متصلة به فقط كي لا يُعلن الوفاة رسمياً.
ما الأهداف التي يُفترض أن تحققها الموازنات العامة؟
1. الاستقرار الاقتصادي الكلي
من خلال مواءمة السياسات المالية والنقدية، وضبط العجز، وحماية ما تبقى من سعر صرف هش.
2. تحفيز النمو والتنمية بتمويل القطاعات المنتجة والبنية التحتية والحد الأدنى من الخدمات.
3. إدارة الموارد المالية لجميع القطاعات الاقتصادية والإدارية والوحدات الاخرى كالصناديق المتخصصة والوحدات المستلقة بكفاءة، ، ايضا تخطيط الاستخدامات (النفقات) في كافة القطاعات وفق أولويات وطنية واحتياجات مجتمعية.
4. تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال تمويل الحماية الاجتماعية، ودعم الفئات الضعيفة، وتوسيع فرص العمل.
5. تعزيز الثقة بين الدولة والمواطن بشفافية الإنفاق، وصدق الأرقام، وربط الموازنة بالأثر التنموي لا بالموازنات الورقية.
6. تحقيق الاستقرار السياسي وهذه يفترض أن يطول الحديث فيها ولكن المجال لا يتسع للذكر هنا.
لكن ما هي الفجوة بين الأهداف والواقع؟
1.انهيار القطاع الاقتصادي كلياً، فالقطاع الاقتصادي الحقيقي مشلول، الناتج المحلي منكمش بدرجة كبيرة، وأكثر من 60% من النشاط الاقتصادي خارج الإطار الرسمي، ما يجعل الموارد المقدرة في الموازنة أقرب للخيال منها للواقع.
2. انقسام الدولة وغياب القرار المركزي فتعدد السلطات، وانعدام التنسيق بين المؤسسات، يجعل الموازنة صراعاً على موارد لا تُدار من مركز واحد.
3. انهيار شبه كلي للبنية التحتية من طرق وجسور ومطارات وموانئ ومصانع وشبكات مياة وكهرباء وشبكات الصرف الصحي، ما يجعل أي استخدامات (نفقات) تنموية بلا أثر ما لم تقدم خطة شاملة لإعادة الإعمار.
4. غياب شبه كلي لقواعد البيانات والتكامل المعلوماتي فلا نظام مالي موحد، ولا ربط بين المؤسسات، ولا تتبع للأداء المالي، مما يعوق التخطيط الفعال.
5. فقر متفشٍ وبطالة مرتفعة فوق 85% من السكان تحت خط الفقر، وبطالة تصل لـ 60% بين الشباب، بينما لا توجد شبكة أمان اجتماعي فعّالة.
6. تضخم في الاستخدامات الأمنية والعسكرية على حساب التعليم والصحة والتنمية، وسط غياب رقابة برلمانية ومجتمعية حقيقية.
لله ثم للتاريخ... حتى لا يقال اننا نكتب من أجل الكتابة فإننا نطرح بين أيديكم الحلول الممكنة التي يجب ان تركز على مقاربة إنقاذ لا تنمية شاملة نقترحها في ما يلي:
1. إعداد موازنة بقاء لا موازنة طموحات أولوياتها:
تامين دفع الرواتب للقطاعات الأساسية (تعليم، صحة، عسكريين).
تمويل الخدمات الأساسية بالحد الأدنى على الاقل (مياه، نظافة، صحة، امن، كهرباء) و دعم القطاعات القابلة للبقاء (زراعة، صيد، صناعات خفيفة).
2. تفعيل موازنة طوارئ بمسار موازي بتمويل خارجي، وبإدارة مستقلة وشفافة، مخصصة لإعادة الإعمار العاجل في البنية التحتية الحيوية.
3. إنشاء منظومة مالية ومعلوماتية موحدة وهذا يعني:
- نظام ERP حكومي لإدارة الموارد والاستخدامات (يفهم ذلك المتخصصين بانظمة المعلومات).
- قاعدة بيانات متكاملة للموظفين الفعليين، المشاريع(متعثرة، قيد التنفيذ، جديدة)، والممتلكات العامة، مع اعادة تقييم تلك الممتلكات وبشكل شامل مهما كان مصدر التمويل.
- انشاء إدارة رقابة تحليل مالي وبياني مستقلة في وزارة المالية ( غير ادارة المراجعة الداخلية وممكن تكون احد ادارتها).
4. تحفيز الموارد المحلية المستدامة
- إصلاح وتحديث إدارة الجمارك والضرائب والزكاة والايرادات المحلية الغير ضريبية.
- دعم الموانئ والمنافذ التجارية لتكون مصدر حقيقي للموارد العامة.
- إشراف دولي مشترك لتعزيز الثقة والرقابة على استخدام التمويل الخارجي.
5. التخطيط في ظل الوضع الحالي بالسيناريوهات من خلال عتماد سيناريوهات متعددة في الموازنة هي:
- سيناريو تفاؤلي: استئناف تصدير النفط + توافق سياسي
- سيناريو واقعي: العمل بالموارد المتاحة وتحسين كفاءتها
- سيناريو الطوارئ: تخطيط لما هو أسوأ مع توفير الحد الأدنى من الخدمات.
6. إشراك كافة الجهات والمكاتب في إعداد وتحليل مشروع الموازنة بشقيها الجاري والراسمالي، وتقديم مقترحات عملية لبدائل التنفيذ، وتفعيل الرقابة المجتمعية.
7. فرض تقارير مالية ربع سنوية لنشر نتائج الأداء، ومقارنتها بالخطط، وبيان الفجوات والانحرافات، وربطها بالمساءلة.
8. إعادة ترتيب الأولويات بتقليص الاستخدامات (النفقات) غير المنتجة، وتوجيه الموارد المتاحة نحو مشاريع لها أثر مباشر وفوري في حياة المواطنين.
9. إشراك السلطات المحلية بفعالية في تخطيط واستخدام الموارد، بما يضمن عدالة التوزيع والتقليل من المركزية المشلولة كما جرت العادة باعتماد الموازنات على موازنة ٢٠١٤م في ظل نسبة تضخم تجاوزت ١٣٠٠%.
10. بناء شراكة فاعلة مع المانحين الاقليميين والدوليين لكن بشروط وطنية وشفافية مطلقة، وربط أي تمويل خارجي بإصلاحات داخلية ملموسة.
الموازنة ليست أرقام على الورق، بل انعكاس للعقد الاجتماعي بين المواطن والدولة، ومتى ما انهارت الدولة والاقتصاد والمعلومات والرقابة، تحوّلت الموازنة إلى وهم منظم… يُدار باسم الشعب ولا يخدمة.
رسالتي إلى دولة رئيس الوزراء واللجنة العليا للموازنات: إن أردتم موازنة تُحدث فرقاً لا مجرد وثيقة للتوقيع، فأعيدوا تعريف ما تعنيه الموازنة في ظل اقتصاد بلا اقتصاد…
لقد حان الوقت لأن تكون الموازنة بداية حل لا استمرار أزمة.