التحسّن المفاجئ في سعر الصرف : دلالاته وأسبابة وحدودة
الجمعه 01 أغسطس 2025 - الساعة 11:00 مساءً
شهد الريال اليمني تحسنًا مفاجئًا خلال الأسابيع الأخيرة، وهو ما اعتبره مراقبون مؤشرًا إيجابيًا بعد موجات متتالية من الانهيار، لكن هذا التحسن، رغم أهميته فهو لا يعكس تحوّلًا هيكليًا في الاقتصاد، وهو ما يثير الكثير من المراقبين و المواطنيين.
*أولا:- الأسباب*
التحسن يعكس مزيجًا من الإجراءات المؤسسية والتدخلات السياسية والضغوط الدولية، ويمكن تلخيصها كما يلي:
▪︎ *التحول من التعويم الكامل إلى التعويم المدار:*
أنتقل البنك المركزي المركزي في عدن في إدارة سعر الصرف من تبنّى سياسة الصرف المعوم بالكامل إلي سياسة "التعويم الجزئي" أو "التعويم المدار"، من خلال تحديد نطاق سعري يومي (حد أعلى وحد أدنى لسعر الصرف)، ما سمح بضبط السوق ومنع التقلبات الحادة التي كانت تسيطر على السوق المفتوحة، هذا التحول يتيح للبنك المركزي التدخل في السوق عبر أدوات مرنة، مثل المزادات اليومية، أو ضخ كميات محدودة من النقد الأجنبي وفق سعر مرجعي، ما يجعل السوق أقل عرضة لهيمنة الصرافين والمضاربين، ويساعد ذلك على تقليص الفجوة بين السعر الرسمي والموازي.
▪︎ *إستكمال نقل كامل لإدارة المنظومة المصرفية إلى عدن:*
يساهم هذا الإستكمال في تمكين البنك المركزي من : إدارة السيولة بشكل مباشر، وتفعيل أدوات السياسة النقدية (مثل أدوات الدين العام)، كما أن إعادة تنظيم السيولة، سيدعم قرار وقف طباعة أي إصدارات نقدية جديدة، وهو ما يقلّل من حجم الكتلة النقدية المتداولة ويخفف من الضغوط التضخمية على الريال، كما يساعد هذا النقل على فرض المركزية في العمليات المصرفية، ومنع ازدواجية الصلاحيات التي كانت قائمة بين صنعاء وعدن، ويسمح أيضًا بفصل الحسابات الحكومية عن الحسابات الشخصية والتجارية، وهو ما كان يشكل مصدرًا للفوضى النقدية وانعدام الشفافية.
▪︎ *تشكيل وتفعيل لجنة تنظيم وتمويل الاستيراد:*
وجود لجنة خاصة لتنظيم عمليات استيراد السلع، يساهم في:- تقنين الطلب على الدولار، ومنع التجار من استخدام العملات الأجنبية لأغراض المضاربة أو الاحتكار، و خفض الضغط على السوق النقدية الناتج عن الاستيراد غير المنضبط، و سيحدث هذا الإجراء إنخفاض ملحوظ في الطلب على الدولار في السوق المفتوحة، خاصة في فترات الذروة التجارية.
▪︎ *الربط الشبكي للمصارف وشركات الصرافة بالبنك المركزي*
وهو ما يتيح :- رقابة آنية ومباشرة على عمليات بيع وشراء العملات، وتقييد المضاربة والتحايل في سوق الصرف، و إحكام السيطرة على السوق عبر آليات رقابة مؤسسية، كما يتيح إعداد تقارير يومية عن حركة الأموال، ويمكّن الجهات الرقابية من التدخل الفوري في حال ظهور مؤشرات على عمليات غير قانونية، ما يرفع من كفاءة الاستجابة الرقابية ويساهم في تعزيز الشفافية.
▪︎ *إجراءات توجيه التحويلات عبر القنوات المالية الرسمية:*
بناءً على قرارات سعودية وأمريكية، بدأ توجية التحويلات الواردة لليمن للمرور عبر النظام المصرفي الرسمي المرتبط ببنك عدن، بعد اكتمال مشروع الربط الإلكتروني والذي تم تمويلة أمريكيًا بهدف: ضبط حركة رأس المال، الحد من نشاط السوق السوداء وغسل الأموال، و مراقبة شبكات التحويل غير الرسمية التي وُصفت في لقاءات رسمية بأنها "مفتقرة للمصداقية ومعرضة للملاحقة القانونية"، حيث كانت نسبة كبيرة من الحوالات تصل عبر شبكات غير رسمية، و تُستخدم في المضاربة أو تمويل شبكات فساد، وقد أدى ضبط مسار هذه الحوالات إلى تقليص مصادر تغذية السوق السوداء للعملات، و تحسين في ميزان المدفوعات.
▪︎ *ضغوط سياسية واقتصادية داخلية وخارجية:*
أسهمت مجموعة من الضغوط – بينها انخفاض الدعم الدولي للأطراف اليمنية، وتحول أولويات المجتمع الدولي بعد الحرب الإيرانية الإسرائيلية – في دفع الأطراف المختلفة (بما فيها الحكومة والحوثيين) إلى تخفيف التدخل في عمل البنك المركزي ومنحه مزيدًا من الصلاحيات، كشرط دولي لاستقرار السوق، في ظل إرتفاع المخاوف من تزايد الاشتراطات الدولية لأي دعم مالي أو تقني، حيث بات استقرار النظام المصرفي أحد المؤشرات التي تقيّم بها المؤسسات الدولية مدى جدارة اليمن بالحصول على دعم خارجي أو ودائع خليجية مستقبلية.
▪︎ *توقعات رفع سعر الدولار الجمركي:*
أدت الأخبار حول نية الحكومة رفع سعر الدولار الجمركي إلى تقليل الطلب على الدولار من قبل المستوردين الذين آثروا الترقب، ما ساعد مؤقتًا في خفض الطلب على العملة الأجنبية وتوفير قدر من الاستقرار في السوق، ومن الناحية السلوكية، أثّرت هذه التوقعات على قرارات الاستيراد، وتأجيل الطلبات في تخفف الضغط الأني على سوق العملات الأجنبية.
*ثانيًا: دلالات التحسن*
رغم التحسن الملحوظ، فإن هذا الاستقرار لا ينبع من إصلاح اقتصادي جذري، بل من عوامل فنية وإدارية مؤقتة، وهو ما قد يفسّر هشاشته وارتباطه بالمتغيرات السياسية والدولية، *ويُعَدّ هذا التحسّن إشارة واضحة إلى أن ما لا يقل عن 40% من أسباب الانهيار السابق كانت نتيجة تقاعس إداري واختلالات في السياسات الاقتصادية*، كما يؤشر هذا التحسن إلى أن وجود مؤسسة نقدية فاعلة قادرة على فرض رقابة واستقرار قد يُحدث تحولات حقيقية حتى في ظل هشاشة الدولة والصراع القائم، غير أن هذه الدلالات لا تزال محدودة ما لم تترافق مع إصلاحات مالية وتنسيق فعّال مع السياسة المالية للدولة
*ثالثًا: حدود التحسن*
إذا لم يتم استكمال هذه الإجراءات بتدخلات عميقة لمعالجة التشوّهات البنيوية في الاقتصاد، فإن التحسن سيظل قصير الأجل. ومن أبرز التحديات الهيكلية:
1- غياب الشفافية في إدارة الموارد العامة.
2- ضعف منظومة التحصيل والجباية.
3- تفشي الفساد المالي والإداري.
4- انهيار القطاعات الإنتاجية وغياب اقتصاد العمل والإنتاج.
ولهذا فإن معركة سعر الصرف الحقيقية ليست في السوق، بل في مراكز اتخاذ القرار، وتحديث البنية المالية والمصرفية، ومكافحة الفساد، وبناء قواعد بيانات حديثة، وتبني سياسات تعتمد على البيانات لا على ردود الفعل. فكلما زادت الشفافية والاستقلال المؤسسي، كلما زادت قدرة الريال على الصمود في وجه العواصف، وهنا ليس المطلوب فقط كبح المضاربين أو إغلاق محلات الصرافة أو انتظار ودائع خارجية، بل إعادة بناء منظومة اقتصادية متكاملة ترتكز على الإنتاج، وتعزز استقلالية البنك المركزي، وتعيد ثقة الناس بالجهاز المصرفي، ودون ذلك، سيظل الريال اليمني رهينة لتقلبات ظرفية، ومعالجات إسعافية في اقتصاد مفكك.